بعد سقوط بغداد أمام الجيش الأميركي في 2003 دار الحديث بين النخب العربية حول معنى "القومية العربية"، خاصة في ظل تورط أغلب القادة العرب في دعم الاجتياح الأميركي للعراق، سواء بدعم معلوماتي واستخباراتي أو بقبول استخدام القواعد الأمريكية في المحيط العربي كمنصات تستهدف الدولة النفطية.
استغلال الأنظمة العربية الحاكمة لراية العروبة كي تمنح نفسها سلطات مطلقة في احتكار الثروة والسلطة جعل مهمة إسقاطها أكثر سهولة من معركة بغداد التي تحركت فيها مئات الآليات العسكرية.
الرسالة الأمريكية كانت واضحة "انتهى زمن القومية العربية"، ويجب أن تجد المنطقة صورًا جديدة للحكم تحقق مزيدًا من الاستقرار لتلك المجتمعات، وتضمن بالتأكيد المصالح الأمريكية والغربية في الشرق الأوسط.
كانت أنظار الأميركي موجهة إلى النموذج التركي، شريك حلف الناتو، والنظام الذي ضبط معادلة ضبط المصالح الغربية والتقرب من إسرائيل مع الحفاظ على رأي عام داخلي داعم ومؤيد، ما يجعله قادرًا على اتخاذ قرارات يرفضها حكام العرب بادعاء الرفض الشعبي وتهديد السلم والاستقرار الداخلي.
لهذا لم يكن غريبًا أن تطرح الحكومات الغربية تنظيمات الإسلام السياسي وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمون كبديل عن الأنظمة الديكتاتورية التي أسقطتها الشعوب العربية في 2011. واختارت التنظيمات الإسلامية أن ترمي بكل قوتها في مصر وتونس وسوريا وليبيا لحسم المعركة سريعًا.
الدعم التركي
لم يكن غريبًا أن تدعم تركيا نماذج التغيير الإسلامي في المنطقة، فهو من جهة يزيد من نفوذها لما يربط بينها وبين تلك التنظيمات من روابط أيديولوجية ونفعية، بالإضافة إلى تعزيز قوتها الداخلية باللعب على حلم الخلافة العثمانية لدى جمهور الناخبين التركي.
استخدم النظام التركي قوته الناعمة في دعم الإخوان في مصر وتونس، واستخدم الخشونة في سوريا وليبيا.
حيث تدخلت القوات التركية لتأمين الأراضي التي سيطرت عليها ميليشيات الجيش السوري الحر في شمال سوريا، لتحتل قطاع كبير من الأراضي العربية دون رد فعل، كما تدخلت بقواتها لدعم الموالين في ليبيا من هجمات بقايا الجيش الليبي بقيادة خليفة حفتر.
إيران وإسرائيل
بدأ الصدام التركي الإيراني مبكرًا، بعد أن فتحت تركيا أراضيها لمجاهدي العالم للعبور إلى سوريا لإسقاط نظام بشار الأسد، وهو ما تطور فيما بعد إلى ما يمكن اعتباره حربًا بالوكالة بين الميليشيات المدعومة إيرانيًا وروسيًا والميليشيات الإسلامية المهندسة تركيًا، وصل الصراع إلى ذروته بدخول قوات رسمية روسية وتركية مع ترسيم حدود بينهما وبعض المناوشات التي وصلت إلى إسقاط مقاتلة روسية، ثم اغتيال السفير الروسي بأنقرة على يد فرد أمن تركي.
كذلك، اعتبرت تل أبيب سيطرة التيار الإسلامي على نظام الحكم في القاهرة تهديدًا مباشرًا لمصالحها مصر، تلك المصالح التي حمتها الأنظمة العسكرية منذ بداية مفاوضات السلام إبان حرب أكتوبر 1973. لذلك لم يكن مفاجئًا أن تدعم إسرائيل عبر وساطة إماراتية التحركات المصرية للإطاحة بحكم الإخوان المسلمين.
داعش وطهران
أدى ظهور تنظيم داعش إلى تعزيز حالة السيولة في المنطقة، وإجبار عدد من القوى المتنافسة على تهدئة الأجواء فيما بينها لإسقاط الخطر الإرهابي الوشيك، وهو ما مثل الفرصة الذهبية لطهران للتدخل بقوة في المنطقة، بعد رفض الجيوش النظامية في مصر والسعودية أن تتدخل في معركة إسقاط داعش.
استغل الحرس الثوري الإيراني الفرصة لجمع عناصره المدربة مسبقًا، وأسس عددًا من الميليشيات في العراق جمعها تحت راية "الحشد الشعبي" ثم فتح خط إمداد واسع لحزب الله للتوغل في الداخل السوري.
القاهرة والبوصلة المفقودة
في تصريح للرئيس السوري بشار الأسد تعليقًا على الإطاحة بحكم الإخوان المسلمين في مصر، ما اعتبره الأسد سقوطًا للإسلام السياسي، "القاهرة أنهت المعركة مبكرًا"، بحسب تعبيره.
دخول مصر كلاعب إلى الميدان غيّر من توازنات القوة التي كانت تميل بقوة لصالح التحالف التركي الإخواني، خاصة مع الهجوم التركي الشديد سياسيًا وإعلاميًا على النظام المصري الجديد.
ولكن النظام المصري فضّل الابتعاد عن مسرح العمليات في سوريا والعراق، وانغمس كلية في الداخل المصري بهدف تصفية التنظيمات الإسلامية وتأمين كرسي الحكم، بالإضافة إلى أولوية مصر في تأمين الحدود الجنوبية والغربية. ثم انحازت القاهرة إلى التحالف الخليجي في حصار قطر، ولكنها ما لبثت أن تراجعت عن التدخل العسكري في اليمن، كما رفضت التدخل في سوريا.
ومع ذلك، كان الجيش المصري على استعداد للتدخل في ليبيا في مواجهة القوات المدعومة تركيًا.
الشام الجديد
حاولت القاهرة تأسيس تحالف جديد يعيد ضبط كفة الميزان التي باتت تميل بشدة لصالح إيران، وفي سبيل الخروج من عباءة التحالف الإماراتي الإسرائيلي الذي بات يضر بالمصالح المصرية، خاصة بعد توقيع اتفاقات إبراهيم - ابراهام، والتي تم الضغط على مصر بقوة لدعمها.
كذلك، كان التحالف الإماراتي يستهدف علاقات مصر بإفريقيا، وتحديدًا في ملف سد النهضة، بالإضافة إلى الصدام الواضح في الملف السوداني.
تحاول مصر جاهدة بناء حلف يجمع الأردن وتونس مع العراق ولبنان والجزائر، بالرغم مما يبدو على الحلف من ضعف في مكوناته، مقارنة بالتحالف التركي القطري والتحالف الإماراتي الإسرائيلي، وحلف إيران، إلا أنه قد يحمل وحده مفاتيح حل واحدة من أهم أزمات المنطقة وهي القضية الفلسطينية، والتي بالرغم من النفوذ القطري والتركي والإيراني على أطرافها، إلا أن معبر رفح فرض الدور المصري في أي تصور لحلحلة القضية.
تعلمنا أن الفكر قادر على حسم الصراعات الدولية بدرجة أكبر من الأسلحة، الخطط الاستراتيجية لإسرائيل وإيران وتركيا، هي ما جعلتهم القوى الإقليمية الأكثر نفوذًا. ولكن الفرصة المصرية للعودة كواحد من أبرز اللاعبين الإقليميين لازالت سانحة، يمكن للقاهرة أن ترسم سيناريو الخروج من أزمة 7 أكتوبر بشكل يقدم مسارًا لإنهاء الصراع، دون أن تتم تصفية القضية أو اندلاع مواجهة إقليمية شاملة.
رغم كل التدخلات الإقليمية في الصراع، إلا أن مصر بحكم الجغرافيا والسياسة والأمن القومي، هي صاحبة القضية الأولى، بالإضافة لتمتع مصر بالقدر المناسب من الثقة التي تجعلها الوسيط الأمثل.
يتبقى الدور الأهم على رجال الحكم في أن يقدموا أصحاب الفكر ولو لمرة واحدة على أصحاب الولاء، أن يسمحوا لعودة الدور المصري بعد سنوات من التهميش والتضليل وضياع الوجهة.