"هو احنا اتنسينا؟"

في البداية هذا ليس مقال. ويأتي نابعًا من أصوات تتردد في مسامعي خلال الشهر الماضي ولا أستطيع النوم وتجاهل ألمها. الذي أعيه جيدًا. هذا خطاب مجمع من عدة رسائل وصلت لي خلال الشهر الماضي من عدة أشخاص. أو بالأحرى دعني أقول عدة معتقلين سياسيين وأهليتهم أو الوصف القانوني الذي تفضلونه السجناء الاحتياطيين المتهمين بالانضمام لجماعات إرهابية ونشر أخبار كاذبة. تمامًا مثلي منذ عامين.

تمامًا مثلي. متهمين بالانضمام لجماعات ارهابية لا يعرفون ما هي واذا سألوا في النيابة لن يجدوا ردًا واذا سألوا في أمن الدولة أو أقصد الأمن الوطني "أسفه أنا على قديمو" سيكون الرد إنه عارف هو هنا ليه -في ألطف الردود-.. والسبب الذي لا يحبون أن يُقال بصوت عالي رغم أن الجميع وأقصد هنا الجميع حرفيا داخليا وخارجيا يعرفونه، أنه هنا بسبب كلمة قالها بصوت عالي ليست على هوى النظام... كلمة في بوست، كلمة في مقال، كلمة في شركته، كلمة في السوق، أو ارتكب مصيبة أكبر واشتغل صحفي ومحامي يستخدم تلك الكلمات لقول الحقائق. ونعم هي حقائق.. أنا أعلم وأنت تعلم وأمة لا إله إلا الله بل وأمة لا إله فقط يعلمون!. هي حقائق لأننا ببساطة لما نسأل عن ماهية الأخبار الكاذبة التي نتهم بها ونسجن بسببها كذلك لا نجد رد.

لكنني هنا لا أتحدث بعقل ولا منطق. ولا لغضب ولا لشيء سوى لأذكركم جميعًا… بمن يسألون "هو احنا اتنسينا؟".. أتحدث بقلب هؤلاء الذين اليوم يقبعون في الزنازين الرمادية القذرة ذاتها التي كنت أقبع فيها مُغلقةُ علي عشرات الأبواب الحديدية ومُعين لحراستي عشرات الأفراد ليحرصوا حرصًا تامًا أني لا أملك صوتًا ولا قلمًا، ويحاولون محاولات مختلفة أن أصبح مع الوقت منسية.

أنا هنا أكتب بدلًا عنهم.. لأكون صوت وقلم.. لكي أقول لهم لا لستم منسيين.

ربما "لن أحكى في المحكي" عن وعود تكررت عشرات المرات واتخذت أشكال مختلفة عن حل ملف المعتقلين أو "سجناء الرأي" ومن بعد لجنة الحوار تم تشكيل لجنة "محلية" فيما عرفت بلجنة العفو الرئاسي. وكالعادة لا يسمى عفوًا قانونيًا إخلاء سبيل محبوس احتياطي. لكن -ما علينا- أنا أفهم حب التسميات عند النظام الحالي وسبب حرصهم على استخدام مسميات بعينها وهو أمر غاية في الذكاء الحقيقة.

لكن من يهتم؟ من يهتم بالمسميات ما دام الفعل هو إنقاذ روح من الموت. هل أبالغ؟ هل إخراج سجين مظلوم من السجن يقارن بإنقاذ شخص من الموت؟ بل هو تهوين من الوصف في رأيي. هو أقرب لإعادة الحياة لميت وإخراجه من القبر.

هي مبالغة أخرى؟ صدقًا لا… السجن ظلم بمثابة "بروفة" على الموت. في كافة تفاصيله إلا أننا نطمع أن ما بعد الموت يكون الجنة برحمة الله بنا. لكن السجن هو لحظات خروج الروح والموت ذاته لمدة سنة أو اثنين أو ثلاثة أو أو… عد تصاعدي مفتوح المدة.. ليس فقط للاحتياطي.. لكن أيضًا للمحكوم، فببساطة ودون أية اعتبارات بعد انقضاء مدة الحكم قد يُعاد تدويرك كما حدث مع العزيزة د. هدى عبدالمنعم. وهذا كله لحظة الموت ذاتها مضخمة ومعادة دون خروج نهائي للروح. معلقة في حلقك؛ تضرب صدرك وتمزق أضلعك. ولا تخرج. دون أن تصل لما ما بعد الموت.

لو كنت جربت بنفسك ستتفهم جيدًا معنى كلامي. وقد تشعر حتى أنه ليس الوصف الكافي وأكاد أتفق معك. فالموت ذاته رحمة مقابل الوضع الذي تجد نفسك فيه مسجونًا مع أشخاص ارتكبوا جرائم حقيقية وأذى حقيقي لآخرين، وهناك قانون وحقوق لهم أكثر مما تمتلك أنت الذي قلت "كلمة" أو عملت عملًا شريفًا لكن ليس على هوى النظام!

فتخيل على أية حال هذا الشخص في قبره. وهو يسمع أشخاصًا يقتربون من المقبرة يناقشون تحريره. هل تعتقد أنه سيهتم بالمسميات؟ وحينما يبدأ سماع أصوات أشخاص آخرين في مثل حالته خرجوا بالفعل ترى كيف سيشعر؟ هل سيهتم بمن يفعل ماذا؟ هل سيسأل أية أسئلة.. سوى سؤال واحد.. متى؟

خلال عامين من حريتي تواصلت مع عشرات الأسر لأهالي المعتقلين وكذلك في تواصل مباشر مع بعض المعتقلين من سجون مختلفة. لم نعرف بعض يومًا لكنا نعرف التجربة. وكل ما يسألونه متجاوزين حتى السؤال الخاص بلماذا فلان وعلان وليس هم. لماذا أنا وليس هم. تجاوزناه معًا بمرارة واصبحنا نركز على السؤال الوحيد المهم "متى".

إلا أنه وخلال الأشهر الماضية للأسف تحول السؤال ذاته إلى صمت مؤلم. وإلى سؤال آخر… "هو احنا اتنسينا؟"

الحقيقة، أنا نفذت مني كل الإجابات المطمئنة… كل التحليلات المحتملة لأسباب توقف إخلاءات السبيل وأمل بأن يكون توقف مؤقت. لكن في النهاية هم… مئات السجناء السياسيين. هم… أصدقاء وزملاء ونساء ورجال وشيوخ. هم مشهورون وغير معروفين، هم أكثر مئات الألاف من المعلقون بين الموت والحياة تنتهي أعوام وأعمار لهم ولأسرهم في الخارج. لا ينتظرون أي شيء سوى نهاية هذا القبح. وهذه الرسالة إليهم وإلى من مازال يقرأ. لماذا توقفت الإخلاءات؟ لماذا عادت العجلة تعمل في اتجاه واحد "اعتقالات جديدة وتدوير" وتم نسيان الوعود؟ وتم نسيان مئات السجناء الذين تعلمون جيدًا أنهم لا يشكلون أي خطورة.

مع زيادة العبء الاقتصادي وتزايد العبء النفسي. هل تتفهم مدى حِمل الزيارات؟ مدى حمل السجون على آلاف الأسر؟ هل تفهم حِمل هذا وتكلفته على الوطن؟

الحرية للصحفيين والمحامين والأطباء والطلاب والعمال والموظفين وربات البيوت وأساتذة الجامعة وأصحاب الحٍرف والتجار.. الحرية للنساء وللرجال.. الشيوخ والصغار… الحرية تكلفتها أقل كثيرًا من تكلفة الظلم.

اذكروهم.. اذكروا أسمائهم… أخبروهم أنهم مش منسيين… أنهم مهمين.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة