احتفلت الكنيسة القبطية الأرثوذكسية -قبل يومين- بالذكرى الحادية عشر لاختيار البابا تواضروس الثاني بطريركًا في الرابع من نوفمبر، خلفًا للبطريرك الراحل البابا شنودة الثالث، بعد إجراء طقس القرعة الهيكلية (وفق لائحة انتخاب البطريرك-المعروفة بلائحة 57). وبمقتضى القرعة التي أبقت عليها اللائحة الجديدة المعدلة، يقوم طفل معصوب العينين باختيار ورقة من بين ثلاث ورقات تضم أسماء المرشحين الثلاث الحاصلين على أعلى الأصوات من صندوق زجاجي أمام الجماهير، ويفتح "قائمقام البطريرك" الورقة لإعلان اسم البطريرك الجديد.
وحددت اللجنة المشرفة على الانتخابات البابوية مواصفات طفل "القرعة الهيكلية"بعد تقدم نحو 267 أسرة باستمارات ترشيح أبنائها، من بينها أن يتراوح عمره من 5 إلى 6 سنوات، وأن يكون شماسًا من أول رتبة.
واختار الأنبا باخوميوس ورقة من بين اثنى عشرة ورقة مدون بها أسماء الأطفال المرشحين لسحب القرعة –آنذاك-، ووقع الاختيار على الطفل "بيشوي جرجس مسعد"، والذي مد يده إلى صندوق الزجاجي بعد تعصيب عينيه، واختار ورقة "الأنبا تواضروس".
تزامن اختيار البابا تواضروس مع يوم ميلاده 4 نوفمبر. ولد البابا تواضروس باسم "وجيه صبحي باقي سليمان" عام 1952، وحصل على بكالوريوس الصيدلة من جامعة الإسكندرية عام 1975، وبكالوريوس الكلية الإكليريكية عام 1983، وزمالة هيئة الصحة العالمية بإنجلترا عام 1985، والتحق بالرهبنة عام 1988، ورسم قسًا عام 1989، وسيم أسقفًا عام 1997.
البابا بكى وصلى
لدى إقامة طقس القرعة الهيكلية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية كان الأنبا تواضروس-المرشح البابوي وقتئذ- يقيم في "قلايته" -مكان إقامة الرهبان- بدير الأنبا بيشوي، الذي يقع في وادي النطرون شمال غرب القاهرة، بعيدًا عن الانشغال بنتيجة القرعة الهيكلية التي تخضع حسب المعتقد المسيحي لاختيار السماء.
هناك داخل الدير الذي يتضمن مزار البطريرك الراحل "البابا شنودة الثالث" امتثل المرشح البابوي الحاصل على المركز الثاني وفق ترتيب أصوات الانتخابات البابوية، لقضاء أيام الصوم الجماعي الثلاث التي دعا لها آنذاك الأنبا باخوميوس قائمقام البطريرك، قبيل بدء طقس القرعة الهيكلية بين المرشحين الثلاث "الأنبا رافائيل، الأنبا تواضروس، القمص رافائيل أفامينا"، أملًا في اختيار راع صالح للكرسي المرقسي.

أمضى "الأنبا تواضروس" نحو 7 ساعات بعيدًا عن أعين الرهبان المنشغلين بطقوس القرعة الهيكلية عبر الشاشات، ومع دقات الأجراس، وإعلان اسم "البابا الجديد" تحرك مجمع الرهبان إلى مكان إقامة "البابا تواضروس الثاني" آخر من علم بنبأ اختياره في الكنيسة القبطية، ودقت أجراس الفرح بدير الأنبا بيشوي تزامنًا مع دموعه التي استقبل بها نبأ وصوله إلى الكرسي المرقسي.
في الواحدة ظهرًا -عقب انقضاء طقوس القرعة الهيكلية بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية-، وبعد أن أبلغه رهبان الدير باختياره "بطريركًا"، قاد "البابا الجديد" مجمع الرهبان إلى صلاة شكر بكنيسة القديس العظيم الأنبا بيشوي، ثم زار قبر البابا شنودة الثالث لنيل بركته.
هنا، يحكي الراهب "فلتاؤوس"-أحد رهبان دير الأنبا بيشوي- كواليس ليلة القرعة الهيكلية قائلًا:"لقد أجرى رهبان الدير نموذج محاكاة لطقس القرعة الهيكلية، وأسفرت عن فوز "الأنبا تواضروس"، لكن لم يبلغه أحد انتظارًا للنتيجة الأصلية التي كان من المفترض أن تظهر في صباح اليوم التالي لدى إجرائها بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية".
ويضيف "أن الرهبان توجهوا مباشرة إلى قلاية الأنبا تواضروس فور ظهور القرعة الهيكلية، وأبلغوه، فبكى مباشرة، وقام لصلاة الشكر".
اقرأ أيضاً: "لم يبن حجرًا فقط وإنما بنى قلوبًا".. رحيل "سمعان إبراهيم" من نقش المحبة على حجر "المقطم"
بيشوي طفل القرعة
بيشوي طفل القرعة كان وقتها في الصف الأول الابتدائي بالمدرسة المارونية بمنطقة الضاهر. وهو أحد أعضاء كورس الكنيسة، يصلي في كنيسة مارمينا بالوراق، وأسرته من خدام الكنيسة.
يتذكر والده "جرجس مسعد" لحظات إعلان اختياره طفل القرعة، والذي جرى بالتنافس بين 12 طفلًا حضروا جميعًا داخل الكاتدرائية المرقسية بملابس الشمامسة، فيقول: "كانت لحظات مختلفة، وخالدة، تابعتها عبر شاشة التلفاز، وفرحتي لم توصف فور إعلان الأنبا بولا اسم ابني لاختيار القرعة".
يضيف "والدته صاحبة فكرة تقديم أوراقه للمقر البابوي، وهي اللي جمعت الأوراق وحفزت الأسرة على المشاركة في ماراثون أطفال القرعة الهيكلية انطلاقًا من مشاركة إيجابية تتسق مع مشاركتنا في كل الأصوام اللي دعت ليها الكنيسة خلال مراحل الانتخابات البابوية".

رسم "بيشوي" شماسًا بيد الأنبا ثيئودسيوس أسقف الجيزة. لكن مسألة التحاقه بالرهبنة سابقة لأوانها، ومتروكة لاختياره، وإرادة الله، يقول والده الذي التقى البابا فور وصوله للكرسي المرقسي مرة واحدة هو وأسرته، كما أفاد المتحدث السابق باسم الكنيسة القس بولس حليم، الذي أشار أن البابا تواضروس الثاني لدى إعلانه "بطريركًا" احتفل بعيد ميلاده في الطابق الثاني للمقر البابوي بدير الأنبا بيشوي. وكان ذلك عقب استقباله المهنئين بفوزه بالقرعة الهيكلية.
وقد حضر الاحتفال الأول لـ"البطريرك رقم 118" كبار الأساقفة "الأنبا بولا، الأنبا إرميا، الأنبا سرابيون، الأنبا يوسف، والأنبا باخوميوس"، إلى جانب فريق الكشافة برئاسة د.صمويل متياس، وتسلم البابا "زيًا بابويًا" على سبيل الهدية من إحدى الحضور.
إعادة ترتيب البيت الكنسي.. ما حققه البابا؟
بدأ البابا تواضروس الثاني رحلته البابوية بشعار "إعادة ترتيب البيت الكنسي". وهو ما فسره المفكر القبطي كمال زاخر بأنه تجنبًا لأية صراعات داخل المجمع المقدس.
في مقابل ذلك، أصدر البابا عدة لوائح منظمة للكنيسة من الداخل من بينها "لائحة تنظيم الرهبنة، لائحة اختيار الأسقف، الكاهن، الشمامسة، مجالس الكنائس"، إلى جانب لائحة اختيار البابا ذاته، والتي جرى تعديلها، وتوسيع قاعدة الناخبين مع الإبقاء على القرعة الهيكلية.
وبعد نحو 10 أشهر من تجليسه على الكرسي المرقسي، سمى البابا تواضروس لأول مرة متحدثًا باسم الكنيسة الأرثوذكسية، تفاديًا لسيل التصريحات اليومية تحت مسميات كنسية، ومنعًا للزج باسم الكنيسة في ملاسنات وحروب تصريحات في فترة حرجة أعقبت الإطاحة بنظام الرئيس الراحل محمد مرسي وجماعة الإخوان.

يتذكر القس بولس حليم، المتحدث السابق باسم الكنيسة الأرثوذكسية لقائه الأول بالبطريرك، والذي تضمن إبلاغه بمهام منصبه الجديد. فيقول: "أبلغني البابا تواضروس في الثاني عشر من سبتمبر 2013 أنه يصلي منذ 10 أشهر من أجل اختيار متحدث رسمي باسم الكنيسة، وأنه وقع الاختيار علي، ونبهني وقتها إلى أن الصلاة ضرورية قبل اتخاذ أي قرار".
"بعدها بنحو شهرين، أعلن البابا تواضروس تأسيس أول مركز إعلامي للكنيسة الأرثوذكسية، كخطوة تتسق مع شعاره "إعادة ترتيب البيت الكنسي"؛ يضيف "حليم".
يُحسب لـ"البابا تواضروس" التي ستظهر ثمار عمله خلال فترة قريبة داخل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، على حد قول "حليم"، تأسيس المكتب البابوي للمشروعات، مكتب الرعاية الاجتماعية لتسديد احتياجات الجميع، والمعهد القبطي للإدارة، والتدبير الكنسي، إلى جانب انفتاحه على الكنائس الأخرى، والتقارب الذي يعد أولوية لكي لا تبقى "الأرثوذكسية" بمعزل عن الكنائس، ولا تتأسى على ظلال الماضي.
ورسم البابا تواضروس وأجلس ورقى نحو 89 أسقفًا منذ تجليسه على الكرسي المرقسي، وكانت السيامة الأولى في 10 مارس 2013، وبلغ عدد الأساقفة الجدد وقتها 11 أسقفًا، بينما كانت السيامة الأخيرة في السادس، والسابع من مارس 2021 وسيم 7 أساقفة جدد، وجرى تجليس اثنين آخرين.
جئت بالسلام للجميع.. لا بالمعارك!
تبنى البابا تواضروس الثاني منذ مجيئه إلى الكرسي المرقسي سياسة الانفتاح على الكنائس الأخرى، رغم موجات هجوم يتعرض لها بين الحين، والآخر من الحرس القديم بالكنيسة القبطية.
نشبت أولى المعارك على خلفية انفتاحه في أكتوبر عام 2015 عقب زيارته لدولة السويد، ومشاركته في صلاة ترأستها "أنتجي جاكلين"، والملقبة برئيس الأساقفة، وتنتمي إلى المذهب اللوثري، وتعد ثالث أكبر كنيسة لوثرية على مستوى العالم.
وبلغ الصراع ذروته بين البطريرك و"معارضيه" بعد بيان كنسي تزامن مع زيارة البابا فرنسيس بابا الفاتيكان للكاتدرائية في أبريل 2017 متضمنًا مسار "توحيد المعمودية".
اقرأ أيضاً: العلمانيون الأقباط.. هل عبر "صوت التيار" نوافذ المقر البابوي؟
ويرى المفكر القبطي "كمال زاخر" مؤسس جبهة العلمانيين الأقباط أن ثمة مجموعات تريد عرقلة مسار البابا تواضروس الثاني الإصلاحي، لافتًا إلى أن هناك سعيًا دائمًا وراء جر المعركة إلى خارج أسوار الكنيسة لتنفيذ أجندات خاصة.
لذلك، وحسب قول "زاخر"، فإن البابا تواضروس الثاني قبيل زيارته الأخيرة للفاتيكان نفى مطلقًا توقيع أية اتفاقيات بين الكنيستين، وأوضح تفاصيل الزيارة في عدة مقاطع مصورة نقلتها صفحة المتحدث الرسمي باسم الكنيسة.
كذلك، أسس البابا تواضروس نحو 181 كنيسة في الداخل، والمهجر منذ وصوله إلى الكرسي المرقسي.

أصعب المواقف في رحلة البابا
خلال أحد عشر عامًا على الكرسي البابوي، تألم البابا تواضروس الثاني كثيرًا جراء حوادث تفردت بها فترته البابوية منذ موجة حرق الكنائس في أعقاب فض اعتصامي "رابعة العدوية، والنهضة" -أغسطس 2014، مرورًا بحادث الكنيسة البطرسية، وتفجير كنيسة طنطا، وغيرها من الأحداث الموجعة.
يقول القس بولس حليم، المتحدث السابق باسم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية: "إن أصعب المواقف التي مرت على البابا تواضروس الثاني يعد وفاة والدته في مارس 2014، حيث كان وقتها في مؤتمر بالعاصمة اللبنانية بيروت، وأتاه الخبر هناك.. بكى طبعًا، وتأثر جدًا، لارتباطه الشديد بها، وتماسك فيما بعد متحدثًا عنها، قبيل عودته إلى القاهرة".
وفي تصريحات متلفزة قال البابا تواضروس: "أحن لوالدتي، هي التي ربتنا بعد أن ترملت في سن صغير، وكان عمرها 34 عامًا، وواجهت العديد من المصاعب، ونجحت في نهاية الأمر في تربيتنا".
عطفًا على ذلك، تأثر البابا بحادث مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار الراحل، وبكى طويلًا أمام النعش، وحسبما يشير "حليم": "كان الموقف صعبًا للغاية على البابا، لأنه حدث غريب على الكنيسة".
ويؤكد المتحدث السابق باسم الكنيسة أن ثمة عقبات كثيرة واجهت البابا تواضروس إبان سعيه لإقامة نظام مؤسسي للكنيسة، نافيًا وجود معسكرات داخل المجمع المقدس.
اقرأ أيضاً: 5 سنوات على مقتل ابيفانيوس.. أسئلة عن الرهبنة والمطبعة والزراعة و"الرئيس القادم"
البطريرك لم يعد "مغردًا"
فيما اعتبره مهتمون بالشأن الكنسي تحولًا في شخصية البطريرك منذ قدومه إلى الكرسي المرقسي، اهتم البابا تواضروس كثيرًا بالتواصل إلكترونيًا مع الشأن العام عبر حسابه على منصة التغريدات القصيرة "تويتر".
بدأ البابا تغريداته على منصة "x-تويتر" في السابع والعشرين من نوفمبر عام 2012، وتواصلت التغريدات بشكل غير منتظم حتى توقفت في 17 أبريل 2016.
آخر التدوينات تضمنت: "الزيارات الدولية المتلاحقة لمصر: ملوك - قادة - رؤساء - أعضاء برلمانات - وزراء - وفود رجال أعمال - شركات؛ أكبر تقدير على سلامة طريقنا للمستقبل".
بلغت تغريدات البطريرك نحو 173 منشورًا، راوحت بين الشأن العام، والعظات الروحية، والتهنئة بالمناسبات العامة.
لكن البابا الذي يتابع حسابه على منصة "x" نحو 125 ألفًا أعلن في أغسطس 2018 امتثاله لقرارات لجنة الرهبنة وشؤون الأديرة بإغلاق الحسابات الرسمية على مواقع التواصل الاجتماعي على خلفية حادث مقتل الأنبا إبيفانيوس رئيس دير الأنبا مقار.
وفي تدوينة أخيرة اعتبر البابا أن الاهتمام بمواقع التواصل الاجتماعي صار مضيعة للوقت، موجهًا التحية للأساقفة الذين امتثلوا لقرار لجنة الرهبنة بإغلاق حساباتهم الخاصة.