“لم يبن حجرًا فقط وإنما بنى قلوبًا”.. رحيل “سمعان إبراهيم” من نقش المحبة على حجر “المقطم”

قبل نحو 50 عامًا، انطلق الشاب فرحات إبراهيم موسى ناحية منطقة “الزرايب” بالمقطم، حيث يجتمع “الزبالين”، وجامعي القمامة، ليطرح مشروعه التنموي حين كان خادمًا بإحدى الكنائس، دون رتبة كنسية.

وقتها، وبعد أن أجرى حوارًا شاملًا مع سكان المكان حول إمكانية تنميته، لم يكن يعلم خادم كنيسة السيدة العذراء بمنطقة الحافظية –حي شبرا مصر- أن القدر سيدفعه إلى بناء تجربة حضارية، تنموية، وكنيسة بلا “زي كهنوتي”.

الخادم، الذي أقام كنيسة من “الصاج”، مسقوفة بـ”البوص” شأن مباني منطقة “الزرايب”، لم يمل من المداومة على خدمة كنسية ارتكزت على تربية الأطفال، وأعقبها فيما بعد اجتماعات منتظمة للرجال، والسيدات.

وضعية الكنيسة، ومحاولات توسعتها على مساحة ألف متر، وما طرأ على سكان المكان من تغير حياتي، وصل إلى البطريرك الراحل البابا شنودة الثالث، والذي اتخذ قرارًا بزيارة المكان عام 1976، وبعدها بنحو عام ونصف رسم “فرحات إبراهيم موسى” قسًا باسم “سمعان إبراهيم”، ثم رقي قمصًا عام 1994.

وودعت، أمس الجمعة، الكنيسة القبطية الأرثوذكسية القمص “سمعان إبراهيم” رئيس دير سمعان الخراز بالمقطم عن عمر يناهز 82 عامًا، بعد رحلة رعوية، وخدمية استمرت لما يقرب من نصف قرن.

من لحظة الرسامة اختار “القمص سمعان إبراهيم” اسمًا كهنوتيًا يحاكي اسم الدير المنحوت بجبل المقطم، والمعروف باسم “دير سمعان الخراز”، وهو أحد الأديرة التاريخية، وتوثق جدرانه رحلة العائلة المقدسة.

وفي صلاة الجناز-الجنازة- أشار الأنبا يؤانس أسقف أسيوط، ومبعوث المقر البابوي لتقديم التعزية: إن هذا المكان –دير القديس سمعان الخراز- كان رمالًا في مطلع التسعينيات، غير أن جهود القمص “سمعان إبراهيم” جعلت منه منارة عالمية، وقبلة للسائحين.

وأضاف: كان يأتي للمقر البابوي بالكاتدرائية المرقسية بالعباسية مرتين شهريًا عقب اجتماع البابا شنودة الأسبوعي للحصول على مساعدة مالية لإتمام أعمال التنمية بالدير، ولما تكررت زياراته، أوصى البابا بأن يحصل على “شيك” مباشرة دون انتظار قرار بابوي، لأنه “ينحت في الصخر”-على حد قوله-.

سنوات عمل

فكرة بناء الدير لمعت في رأس “القمص سمعان إبراهيم” عام 1974 عقب اكتشاف بعثة علماء الآثار مقبرة تضم هيكلًا عظميًا يعود لـ”سمعان الدباغ”-مؤسس الدير-، بجانب وعاء نادر يرجع تاريخه إلى ألف عام، وقيل-على حد وصفه- إنه الوعاء الذي كان يستخدمه “الخراز” لنقل الماء لبيوت الفقراء.

الدير الذي بني بشكل تدريجي تحت إشراف “سمعان إبراهيم”، بعد أن نقل أبناء المقطم نحو “مليوني حجر، ونصف” لإتمامه، يتضمن عدة اكتشافات أثرية، بجانب لوحات منحوتة في صخور المقطم.

وتستوعب كنيسة “سمعان الخراز” المنحوتة في الجبل نحو 20 ألف شخص، وتضم 76 صورة محفورة، وتعد من أجمل 20 كنيسة بالعالم.

وعن تجربته، قال، في تصريحات سابقة، “القمص سمعان إبراهيم”: كان هذا المكان رمالًا، وأتربة، واستطعنا بنعمة الله أن نحوله إلى معلم سياحي يأتيه الزوار من كل مكان، ويعتبرونه أثرًا يوازي الأهرامات، والقلعة المتاخمة له.

لكن تجربة “سمعان إبراهيم” لم تخل من معارك كنسية، فبعد أن وصل إلى مراحل متقدمة في إعداد البناء الكنسي، وترميم الدير، تنامى حضوره الروحي بين سكان المقطم، وحظيت عظته الأسبوعية بحضور جماهيري كبير، لكون كنيسته تتسع لأضعاف حضور الكاتدرائية المرقسية بالعباسية، والتي تتسع ساحتها لنحو 5 آلاف قبطي.

وفي عام 2008، ومع تصدر ما يسمى بـ”المحاكمات الكنسية” المشهد العام الكنسي آنذاك-تحت رئاسة الأنبا بيشوي –سكرتير المجمع المقدس الراحل-، وهي اللجنة التي وُجه لها انتقادات كثيرة بسبب قراراتها التعسفية ضد “كبار” أساقفة ورهبان وقساوسة وكُتاب الكنيسة، تم وضع القمص الحازم على قائمة المبشرين بالإبعاد عن موقعه، نظير اتهامه بالترويج لأفكار “بروتستانتية”.

وعلى خلفية تصدير المقر البابوي أنباء عن رسامة كهنة جدد لـ”دير القديس سمعان الخراز”، فوجيء البابا شنودة الراحل بتظاهرات إبان عظته الأسبوعية لنحو 400 قبطي من سكان المقطم احتجاجًا على إقصاء “الكاهن المحبوب”. لعب سكان المكان دورًا هامًا في إيقاف قرار استبعاد القمص سمعان

وتصدي “سكان المقطم” لقرار إبعاد القمص “سمعان إبراهيم” من قبل المقر البابوي لم يكن مصادفة، فالرجل الذي أفنى شبابه داخل المنطقة معلمًا، ورائدًا تنمويًا، قاد سكان المكان “مسلمين، وأقباط” إلى طفرة تنموية، ولم يكن متوقعًا داخل حيزه الكنسي، وفقط.

وخلال صلاة الجناز-الجنازة- التي أقيمت أمس الجمعة بحضور آلاف المشيعين “مسلمين، وأقباط”، لفت “الأنبا يؤانس” إلى جانب المعاناة في رحلة “الكاهن”، واكتفى بقوله” مر بلحظات مؤلمة..لكني لن أقول عنها شيئًا”.

عبادة وتنمية

واستطاع القمص “سمعان إبراهيم” أن يدفع التنمية في منطقة “الزبالين” بالمقطم، والتي يبلغ عدد سكانها نحو 60 ألف شخص، إلى مسارات دعم، ومشاركة مجتمعية عبر تضمينه “الدير” مستشفى يقدم خدماته مجانًا لأهل المنطقة من المسلمين، والأقباط، ووحدة خدمة اجتماعية تقدم تيسيرات للمقبلين على الزواج، ومركز تدريب مهني، ومدرسة، ورعاية الطلاب غير القادرين دون تمييز بين المصريين.

داخل الدير الذي يضم 6 كنائس أرثوذكسية “كنيسة الأنبا شنودة أحدث الكنائس، كنيسة الأنبا إبرام بن زرع، كنيسة الملاك وماري يوحنا، كنيسة الأنبا بولا، والأنبا أنطونيوس، كنيسة مارمرقس، وكاتدرائية العذراء والقديس سمعان” أقام الكهنة مدفنًا خاصًا بالقمص “سمعان” داخل الدير، بعد أن قدم القس بطرس رشدي-أحد الكهنة- طلبًا للمقر البابوي، ووافق عليه البابا تواضروس الثاني.

واختتم الأنبا يؤانس كلمته خلال صلاة الجناز بقوله: القمص سمعان إبراهيم لم يبن حجرًا فقط، وإنما بنى قلوبًا، وهو ما نراه الآن بأعيننا خلال وداعه، واستطرد قائلًا:” هذه ثمرة الروح”.

يشار إلى أن القمص سمعان إبراهيم-رئيس دير القديس سمعان الخراز- وافته المنية عن عمر يناهز 82 عامًا بعد رحلة مع المرض.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة