يعد التعايش مع مرض مزمن من الأمور المقلقة ولعل هذا القلق يتزايد مع ما يثار من سوء أحوال سياسية واقتصادية. يحاول الهلال الأحمر المصري بذل جميع الجهود لإرسال مساعدات لغزة ومن ضمنها الإسعافات الأولية والأدوية ولكن هل يعلم أحد كيف يمر يوم أصحاب الأمراض المزمنة تحت القصف والنزوح وما إلى ذلك؟ هل تخيل أحدنا يوميات طفل متعايش مع السكري من النوع الأول؟
إنه قلق مضاعف أن تحاول التعايش مع مرضك ومع خطر القصف وخطر نقص الموارد. يروى دكتور محمد صيام قصته كطفل كان يبلغ الرابعة عشر من عمره أثناء أحداث 2014 فى غزة التي تعدت الواحد وخمسين يوماً عندما نفد الأنسولين الخاص به وظل هو وأهله يحاولون الوصول لأي طبيب أو مشفى يتوفر لديهم أي من الأنسولين، ولحسن الحظ استطاع طبيب توفير أنسولين يكفي محمد لفترة ما.
يضيف دكتور محمد أن تجربته الكبرى كانت عام 2021 عندما اضطر هو وأسرته لإخلاء المنزل فكل ما فكر فيه إن كان مالديه من أنسولين كافياً حتى حين العودة إلى الديار أم لا وكيف سيعيش إن نفد بشكل مفاجىء وهل سيعودون إلى المنزل أم لا. لحسن حظه مجددًا عاد إلى المنزل وكان الأنسولين كافيًا.
اقرأ أيضًا:حكايات حقوقية في مجتمع لا يزال يسأل "يعني ايه مرأة؟!"
الحرب والأمراض المزمنة
يوجد فى غزة العديد من أصحاب الأمراض المزمنة كالفشل الكلوي والسرطان والضغط والسكري من النوع الأول والنوع الثاني. كل هذه الأمراض تتطلب نمط غذائي ومعيشي صحي كتوافر مياه الشرب والطعام والعلاج وضرورة المواظبة على نوم صحي وتوتر أقل.
مع ظروف القصف المستمرة تصبح الموارد شحيحة وتقل نسبة السيطرة على المرض مع قلة النوم وعدم الانتظام على خطة العلاج. يعد مرض السكري من النوع الأول أكثر الأمراض المزمنة انتشاراً بين الأطفال فهو فى الأساس مرض مناعي يقوم بتعطيل البنكرياس عن إنتاج الأنسولين وهو دائمًا ما يصيب صغار السن ممن هم تحت سن الثلاثين وعلى الأغلب الأطفال والمراهقين.
هرمون الأنسولين ليس رفاهية فهو أهم هرمون يفرز في الجسم وبدوره يتم تكسير الطعام وتوصيل الغذاء إلى خلايا الجسم وبدونه يتراكم السكر في الدم وهو ارتفاع سكر الدم ثم يبدأ الدم في مرحلة الحموضة وهو أمر شائع في السكري من النوع الأول. حموضة الدم مرحلة خطيرة تتطلب الانتقال إلى المستشفى في معظم الحالات بالإضافة إلى أن أول عرض من أعراض ارتفاع سكر الدم هو العطش ويعد شرب الماء خطوة علاجية في حد ذاتها ولكن لا يوجد في غزة مياه شرب كافية بالإضافة إلى ندرة الأنسولين والعلاج.
يقول دكتور محمد صيام أن أول ما قد يفكر فيه الطفل عند نفاد الأنسولين هو حياته فهو أساس البقاء على قيد الحياة ومن ثم يفكر في أحلامه وطموحاته التي لم يحققها بعد. يرى دكتور صيام أن العالم له طريقته الخاصة المكررة في نقل الأحداث فغالباً ما يتم تركيز الضوء على جانب الطوارىء فيه وهذا بلا شك أمر بالغ الأهمية ولكن في الأغلب ينتج عن ذلك نسيان المتعايشين مع أمراض وظروف مزمنة وهذا يضطر المجتمع السكري إلى التركيز على نشر الوعي بالأمراض المزمنة وخاصةً السكري وتقديم المساعدات والدعم الإنساني .
انتقل دكتور محمد صيام مؤخراً إلى لندن لدراسة الماجيستير، ويصف الوضع الحالي فى غزة بأنه أكثر صعوبة وقسوة مما مر به. كل ما لدى هؤلاء الاطفال السكريين والآخرين من المتعايشين مع أمراض مزمنة هو طعام قليل.
الحرب المستمرة تُفاقم الأزمة
بدأت مشاكل المعتمدين على الأنسولين عند انقطاع التيار الكهربائي، فالأنسولين يفسد عند تعرضه لضوء وحرارة، فاضطر البعض للجوء للأطباء المعالجين والاستفسار عن أفضل نصيحة للحفاظ عليه خارج الثلاجة فنصحهم الأطباء بإبقاءه في مكان معتم بعيداً عن الشمس أو إبقاءه في أكثر مكان بارد في الثلاجة حتى عند توقفها عن العمل وقد كان صيام واحداً من هؤلاء الأطباء.
توالت مشاكل الأنسولين حالياً فاضطر السكريين من النوع الأول إلى تقليل جرعات الأنسولين أو تغيير النوع لأنواع أكثر توافراً. هذا الأمر قد يكلف شخصًا ما حياته فتغيير نوع الأنسولين أو الجرعات يتطلب مراجعة الطبيب لتقرير احتياج الجسم. نتج عن تحويل أنواع الأنسولين نشر تعليمات ضرورية كمحاولة من المراكز المتخصصة في تقديم حلول مناسبة. يعلق صيام على ذلك بأنهم مضطرون للحفاظ على ما لديهم من القليل منه بدلاً من خسارته تماماً.
قرأ أيضًا:5 سنوات على مقتل ابيفانيوس.. أسئلة عن الرهبنة والمطبعة والزراعة و"الرئيس القادم
جميع السكريين من النوع الأول كثيرو الحديث عن نقص الأنسولين. فمن البداية بدأ في الندرة مع توافره فى مراكز اللجوء والنزوح أو حتى الصيدليات الكبرى ولكن شكَّل اندفاع السكان إلى الجنوب ضغطاً عنيفاً على الموارد مما أدى إلى نقص حاد لدى تلك المراكز والصيدليات، حتى بعد الاضطرار إلى التغيير لأنواع أكثر وفرة فقد ندرت هذه الأنواع أيضاً فاضطر العديد من المرضى إلى تغيير الأنواع مجدداً وهذا الأمر يصفه دكتور صيام بأكثر من كارثي خاصةً مع عدم قدرة المرضى على التواصل مع أطبائهم . حالياً مراكز النزوح هى من تقوم بتقديم الخدمة والرعاية ولكنها أماكن ليست مخصصة للرعاية الطبية التي أصبحت تفتقد للإمكانيات، حسب قول صيام.
الأوضاع الطبيعية دون قصف سيئة في غزة مما يؤدي إلى سوء السيطرة على المرض وإدارته. في هذا الشأن يسعى الأطباء ومنهم دكتور محمد صيام إلى التواصل مع المرضى بقدر الإمكان وهذا بسبب قلة أنواع الأنسولين الفعالة وقلة الموارد كالطعام ومياه الشرب.
يشير صيام الى أن السكريين في فلسطين دائماً لديهم ارتفاع في مستوى السكر وهذا يرجع إلى التوتر في المقام الأول وعدم انتظام النوم. قد يصبح التفكير في إدارة الصحة ومتابعة المرض من المهام شديدة التعقيد داخل أراضي محتلة ولاسيما تحت ظروف القصف.
أرقام مرضى السكري
عندما توجهت بسؤال صيام عن عدد السكريين في غزة فأشار إلى عدم وجود قاعدة تسجيل بيانات في غزة وهناك الكثير من القيود حول ذلك ولكن حسب منظمة السكري فتقدر نسبة السكريين داخل فلسطين نحو 15.3% . حسب قول صيام فإنه على الأغلب النسبة أكثر من ذلك وهذا بناءً على خبرته فى العيادات. عند قياس هذه النسبة على سكان غزة وهم 2.2 مليون نسمة فتكون النتيجة هى 330 ألف مريض بالسكري، ويؤكد أن هذا الرقم يظل أقل من الرقم الحقيقي وكلهم يعيشون في نقص دائم للموارد والرعاية الصحية.
من مضاعفات السكري وتحديداً النوع الأول حموضة الدم وهو أمر يتطلب رعاية صحية قد تصل إلى أيام في المستشفى. حالياً لا توجد أسرّة في غرف العناية المركزة بالإضافة إلى القصف المستمر للمستشفيات وانقطاع الكهرباء مما قد يؤدي إلى حالات وفاة ناتجة عن مضاعفات السكري إثر أحداث الحرب. قد يكون هناك ولو بعض ما تبقى من كفاءة المستشفيات المتبقية ولكن بطبيعة الوضع يكون التركيز موجهاً للمتأثرين بالقصف من المتوفين والمصابين، وهذا الأمر مجدداً يلقي المتعايشين مع أمراض مزمنة إلى براثن الإهمال.
قد يكون هناك بالفعل وفيات بمضاعفات السكري، وهذا بحسب معطيات الأحوال الصحية في غزة فالسكريين ليس لديهم ما يكفي من أنسولين ولا ما يكفي من طعام أو ماء مع قلة النوم والتوتر المتزايد ولكن في الأساس لا توجد قاعدة تسجيل بيانات في القطاع.
ما استطاع الإعلام توثيقه هو وفاة 4 مرضى مصابين بالسرطان بعد تفجير مستشفى السرطان الوحيدة في غزة. يضيف صيام أن الموضوع يزداد سوءً فلا يدري أحد كيف يتعامل مرضى الفشل الكلوي مع مشكلة ضرورة غسيل الكلى أو حتى ما تبقى من مرضى سرطان ولكن فى النهاية هي مشاكل فوق المشاكل.
يختم صيام حديثه بأن الأحوال في غزة تتميز بشح في التثقيف والتعليم وشح الموارد وندرة الكثير من الضروريات للتعايش مع مرض مزمن. تستمر التفجيرات والقصف ويتضاعف العدوان فيضيف مشاكل جديدة لكل من يحاول التعايش مع مرض مزمن . قلة النوم والتوتر المستمر يزيدان من مستويات سكر الدم ومقاومة الجسم للأنسولين. وهذا لا يعني إلا خطورة الأحداث الدامية على كل الأرواح.
فى النهاية، يتعايش دكتور محمد صيام مع السكري من النوع الأول منذ تشخيصه في عام 2011 عندما كان عمره 11 عامًا وقد تعايش مع العديد من الأوضاع فقط لمحاولة السيطرة على المرض . بعد ذلك قرر صيام أن يكون طبيباً فاضطر لمعايشة كل الأوضاع والآلام مع مرضاه أملاً في تقديم خدمة أفضل ووعي ودعم طبي وإنساني.