عاش "هاشم فرج"، فلاح ستيني العمر، من مركز العياط بمحافظة الجيزة، لعقود من عمره، مهمومًا بكيفية معالجة مشاكل صغار المزراعين، وتطوير الجمعية الزراعية. لكنه وصل إلى قناعة حاسمة بأنه "لابد من إلغاء الجمعيات الزراعية، فوجودها كالعدم".
"فرج"، الذي يرأس كذلك الاتحاد العام لنقابات صغار المزارعين، برر قناعته تلك، في حديثه لمنصة "فكر تاني"، أن تلك الجمعيات باتت "كخيال مآتة ذهب مع الريح"، لا يستفيد منها فلاحو مصر الذين يصل عددهم طبقًا للإحصائيات الرسمية إلى 5.2 مليونًا.

وبدأ السيد القصير وزير الزراعة واستصلاح الأراضي منذ 18 يناير 2021، مساع حكومية لم تنجح، وفق مراقبين، في رفع كفاءة الجمعيات الزراعية المنتشرة في قرى الجمهورية، وتفعيل دورها في توفير مستلزمات الإنتاج وحل مشاكل المزارعين رغم تزويدها بآليات كارت الفلاح (كارت رقمي لخدمات المزارع).
اقرأ أيضًا: "ليلى" والغيط.. حينما تُعامل النساء كآلات إنتاج ليس أكثر
يُحمّل "شوقي راغب" فلاح سبعيني من محافظة البحيرة شمالي العاصمة القاهرة، في حديثه لـ"فكر تاني"، الحكومة أسباب عرقلة تطوير الجمعيات، مؤكدًا أنها "لن تكون سببًا في تطويرها أو رفع كفائتها، إذ ما تزال الجمعيات الزراعية في وادٍ والفلاحون في وادٍ آخر"، وهو ما أكدته دراسة ميدانية بمحافظة الشرقية في عام 2020 صادرة عن باحثين بمعهد البحوث الزراعية.
الجمعية الزراعية.. التضارب حتى في العدد
يلاحق التضارب الأرقام الرسمية بشأن عدد الجمعيات الزراعية في مصر، حيث يقدرها السيد القصير بأنها أكثر من 5 آلاف جمعية. لكن محمد عبد المطلب رئيس الإدارة المركزية للتعاون الزراعى بوزارة الزراعة، قال في تصريحات صحفية: "لدينا ما يقرب من 7 آلاف جمعية زراعية تعاونية على مستوى الجمهورية، بواقع 26 جمعية مركزية في كل محافظة، وجمعية مشتركة لكل مركز من مراكز المحافظات".

وكانت نيفين القباج، وزيرة التضامن الاجتماعي، قدرت عدد الجمعيات -في بيان رسمي- بأنها تصل إلى 5800 جمعية. فيما كشفت آخر إحصائيات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، (جهة حكومية) أن عدد الجمعيات التعاونية الزراعية بلغ 6 آلاف جمعية في عام 2020/ 2021.
وبحسب اللوائح، فإن من مهام الجمعيات زراعية: إرشاد الفلاح ورعاية الإنتاج الزراعي، وتوجيه المزارعين لنوعية المحاصيل الإنتاجية والبذور المنتقاة والزراعات الحديثة، وصرف الأسمدة، وحصر المحاصيل، والتعاقد عليها وتنفيذ الدورة الزراعية. لكن بحسب الواقع، فإن "كل هذا.. حبر على ورق" بحسب وصف المزارع "هاشم فرج".
يقول: "لدى 18 جمعية تعاونية زراعية في مركز العياط، تماطل مع الفلاحين، ولا تؤدي دورها، فلا يوجد تقاوي مثلًا.. الجمعية تشجع السوق السوداء في قهر الفلاح".
خيال مآتة شجع السوق السوداء

ويتفق معه بنسبة كبيرة المزراع "شوقي راغب"، إذ يقول: "التاجر أصبح أقوى من الجمعية، والفلاح الضحية، وحتى لما اعتبرنا الجمعيات منفذ للأسمدة والتقاوي فقط، لا تقوم بهذا الدور.. في أحيان كثيرة في محافظة البحيرة، لا تأتي التقاوي للجمعيات، ما يضع الفلاح تحت ضرس الاستغلال بالسوق السوداء".
اقرأ أيضًا.. "زيادة الفلوس هترضي النفوس".. ماذا يحتاج مزارعو القمح من الحكومة؟
يرى د.محمد حكيم، الاستشاري في مجال الاقتصاد التعاوني الزراعي، الجمعيات الزراعية -في حديثه لـ"فكر تاني"- أن غياب الجمعيات الزراعية التام عن المشهد الزراعي هو سيد الموقف، وأدى إلى ظهور ظاهرتين: "ظاهرة استغلال التجار للفلاحين"، وظاهرة النصب المسماة "المستريح"، الذين يلجأ إليهم بعض الفلاحين لاستثمار ما تبقى لديهم من أموال فشلوا في استثمارها زراعيًا مع غياب دور الجمعيات المفترض بها معاونة الفلاح وتحويله إلى قيمة منتجة.
متى تحرر الحكومة قبضتها؟
أزمة أخرى تواجه الجمعيات الزراعية، وهي السيطرة الحكومية التي أفقدتها فعاليتها وحيويتها، بحسب رأي كرم صابر، مدير مركز الأرض لحقوق الإنسان، والذي يضيف لـ"فكر تاني": "الجمعيات الزراعية في دول أخرى كأمريكا هي بوصلة الإنتاج الزراعي. ولكن للأسف، الحكومة في مصر تشدد قبضتها على الجمعيات حتى أصبحت جثث ميتة، فلا يوجد انتخابات حقيقية، بل صورية، وتصل نسبة التزكية والتعيين إلى 95% في اختيار مجالس الإدارات، ومعظمهم من كبار المزراعين، بل ووصل الأمر إلى تعيين عضو مجلس إدارة متوفي في أحد الجمعيات".
يؤكد حديث "صابر"، هاشم فرج إذ يقول: "الانتخابات بالتزكية، وأحمد زي الحاج أحمد، ولا أمل في إصلاح تلك الجمعيات، وإلغاءها أولى من إهدار الوقت والعمر فيها".
ويرى "فرج" أن البنك الزراعي يمكنه القيام بدور الجمعيات الزراعية. خاصة بعد صدور كارت الفلاح، كحل جذري بعدما وصلت الجمعيات إلى مرحلة لا ينفع معها الإصلاح والتطوير وفق اعتقاده.
خيال المآتة البنك الزراعي
وتأسس البنك الزراعي المصري في عام 1931، تحت اسم "بنك التسليف الزراعي المصري"، بموجب القانون رقم 51 لسنة 1931. وفي العام 2016، شهد عمله تطورًا كبيرًا، حيث يقدم كثيرًا من الخدمات المتكاملة للمزارعين والجمعيات التعاونية الزراعية ومشروعات التنمية الزراعية والريفي.
يوضح "راغب" إلى أن فكرة الجمعيات الزراعية قائمة على التعاون الشعبي، وليس الوصاية الحكومية، موضحًا أنه في ظل عدم وجود حرية تعاونية وإصرار الحكومة على وضع يديها على كل تفصيلة في الجمعيات ذهبت قوتها مع الريح.
ويشير إلى أن مدير الجمعية، مهندس زراعي يتبع الوزارة، وهو صاحب الكلمة الأولى والأخيرة. بينما مجلس الإدارة الذي يأتي بعضه بالانتخاب لا سلطة له. وبالتالي، تحولت الجمعيات إلى "خيال مآتة"، بحسب وصفه، الذي يبدو أنه رائجًا في الأوساط الزراعية.
لإعادة الحياة لخيال المآتة.. إصلاح تشريعي واجب
صدر أول قانون تعاوني مصري في عام 1923، وحمل رقم 27 لسنة 1923، وتشكلت به 135 جمعية زراعية في عام 1925. ومع ثورة 23 يوليو 1952 صدر قانون الإصلاح الزراعى، رقم 178 لسنة 1952 الذي عالج كثير من مشاكل الفلاحين ذات الأولوية في هذا الوقت.
وفي عهد الرئيس المصري الراحل محمد أنور السادات، بدأت المشكلة-حسب البعض- بصدور القانون رقم 117 لسنة 1976، الخاص بإنشاء بنوك الائتمان الزراعي، التي قامت بكل أدوار الجمعيات الزراعية، ثم صدر قانون التعاون الزراعي رقم 122 لسنة 1980، والمعدل بالقانون رقم 122 لسنة 1981، والذي شدد من قبضة الحكومة على الجمعيات.
من هذه الزاوية، يرى د.محمد حكيم، بحكم تخصصه كاستشاري في الاقتصاد الزراعي التعاوني، أن أكبر المشاكل التي عصفت بحياة الجمعيات الزراعية، هي القوانين المكبلة بحسب وصفه التي حولتها -والكلام له- من "مؤسسات اقتصادية الهدف منها اقتصادي تعاوني بين الفلاحين لمؤسسات خدمة عامة تابعة للدولة أصبحت عبء على الدولة".
ويوضح "حكيم" أن هناك العديد من مشروعات القوانين الجديدة الموجودة تنتظر الدعوة الحكومية إلى عقد حوار مجتمعي لإنتاج قانون للاقتصاد التعاوني بمصر، مؤكدا أن الحديث عن أن الأزمة في الموظفين يهدر مفتاح الحل وهو ضرورة الإصلاح التشريعي بغرض زيادة مشاركة الفلاحين في رسم سياسات الجمعيات الزراعية ، كي تتحول إلى اقتصاديات تعاونية ناجحة، خاصة أن هناك تجارب ناجحة في الهند والسعودية.
ويلفت د.حكيم الانتباه إلى أن الدستور المصري منذ 1923 حتى تاريخه، يعرف التعاونيات بأنها ملكية، بينما قانون الجمعيات الحالي يعرفها بأنها خدمة تقدمها الدولة الفلاحين ما حولها من كيان نشط ويساهم في دعم الفلاح إلى كيان مريض تحت سيطرة مجموعة موظفين لا تعي قيمة الجمعية التي تمتلك أصول استثمارية ضخمة بالمليارات في كل محافظة، ولا يتم استثمارها.
ويدعو "شوقي راغب" بخبرة السنين، إلى التوافق على قانون تعاوني شعبي جديد، لا وصاية للحكومة عليه، حتى تشهد الجمعيات تطويرا حقيقيًا نابعًا من مشاركة الفلاحين في تطوير حاضرهم ومستقبلهم.