تشير "سياسة الذاكرة" إلى الطرق التي تقوم بها المجموعات والجماعات والأمم ببناء ذاكرة حول إنجازات معينة وأحداث تاريخية والتعرف عليها. فعملية التذكر عبر التاريخ هي عملية معقدة. أرى أن عملية التذكر غالبا تمثل عملية انتقائية تعكس تصوراتنا عن إنجازات ما أو تجاهل إنجازات أخرى ولا يمكن إنكار أن هناك جزء عمدي في إعادة صياغة التاريخ لصناعة الذاكرة.
ولما كان فعل التذكر، كما أوضح ذلك السوسيولوجي الفرنسي موريس هالبفاتش، تحكمه أطر اجتماعية بحيث يستحيل على شخص أن يتذكر لوحده وبمحض إرادته، فإن كل جماعة تتذكر ما يناسبها، ويخدم مصلحتها.
نحن عادة نحتفي بالعلماء الرجال كابن سينا، ابن النفيس، سقراط، أفلاطون، فيثاغورس،إقليدس، وأرسطو وغيرهم ونضخم من إنجازاتهم وغالبًا لا يشار إلى العالمات ويتم النظر إلى العلوم على أنها موطن الرجال وعلى الرغم من ذلك ورغم عدم تذكر التاريخ الحافل من إنجازات النساء، دخلت المرأة بعمق في تاريخ العلوم، ولكن نظرًا لعدم الاعتراف بمساهماتهن في كثير من الأحيان، فإنها تتلاشى ويتم نسيانها.
ولم تعد خيوط تأثيرهن اليوم واضحة كما ينبغي. كان هناك العديد من العالمات الموهوبات في التاريخ، اللاتي حققن اكتشافات واختراعات مهمة في مجالات عدة. حدث انخراط المرأة في الطب في العديد من الحضارات المبكرة، وكانت دراسة الفلسفة الطبيعية في اليونان القديمة مفتوحة للنساء.
يعود تاريخ إنجازات مساهمة النساء في الطب إلى مصر القديمة. منذ أكثر من ٤٠٠٠ عام فأول طبيبة مسجلة، وربما كانت أول عالمة، كانت ميريت بتاح، وهي مصرية عاشت في القرن الثامن والعشرين قبل الميلاد وكانت كبيرة الأطباء في بلاط الفرعون خلال الأسرة الثانية، وهو الوقت الذي أصبحت فيه النساء المصريات طبيبات، ويدرسن في كليات الطب المختلطة، والمخصصة للنساء فقط. وفي الأسرة الرابعة (القرنين السادس والعشرين والرابع والعشرين قبل الميلاد)، أشرفت بيسيشيت حوالي ٢٥٠٠-٢٦٠٠ قبل الميلاد مديرة سايس، إحدى كليات الطب للنساء، على جميع الطبيبات في الإمبراطورية.
شاركت المرأة المصرية قديما في الكيمياء التطبيقية، مثل تحضير المركبات الطبية. فقد تم تسجيل النساء على أنهن قدمن مساهمات كبيرة في الكيمياء. عاش العديد منهن في الإسكندرية حوالي القرن الأول أو الثاني الميلادي. أشهر الكيميائيات، مريم اليهودية، يعود لها الفضل في اختراع العديد من الأدوات الكيميائية، بما في ذلك الغلاية المزدوجة (بان ماري)؛ تحسين أو إنشاء معدات التقطير في ذلك الوقت.
وأيضًا هيباتيا الإسكندرانية (حوالي ٣٥٠–٤١٥ م)، ابنة ثيون، كانت فيلسوفة وعالمة فلك وهي أول عالمة رياضيات ويرجع الفضل إلى هيباتيا في كتابة العديد من الإنجازات الهامة حول الهندسة والجبر وعلم الفلك وكانت هيباتيا رئيسة مدرسة فلسفية وقامت بالتدريس للعديد من الطلاب.
وفي اليونان كانت أغنوديس أول طبيبة تمارس المهنة بشكل قانوني في أثينا في القرن الرابع قبل الميلاد وكانت دراسة الفلسفة الطبيعية في اليونان القديمة مفتوحة للنساء. تشمل الأمثلة المسجلة للعالمات النساء، العالمة أجلاونيكي، التي تنبأت بالكسوف وثيانو عالمة رياضيات وطبيبة، وكانت تلميذة لفيثاغورس، وكان هناك مدارس في كروتوني التي أسسها فيثاغورس، والتي ضمت العديد من النساء الأخريات.
حوالي عام ١٢٠٠ قبل الميلاد، تمكنت صانعتا العطور تابوتي-بلاتيكاليم و-نينو من الحصول على خلاصات النباتات باستخدام إجراءات الاستخلاص والتقطير.
وفي القرون الوسطى كانت الأديرة مكانًا مهمًا لتعليم النساء إذ تشجع الأديرة وأديرة الراهبات مهارات القراءة والكتابة، كما أتاحت بعض هذه المجتمعات فرصًا للنساء للمساهمة في البحث العلمي. ومن الأمثلة على ذلك هي هيلدغارد الألمانية من بينجن (١٠٩٨-١١٧٩ م)، وهي فيلسوفة وعالمة نبات مشهورة. وكانت رئيسة دير ألمانية مشهورة أخرى هي هروسويثا من غاندرشيم التي ساعدت أيضًا في تشجيع النساء على أن يصبحن مثقفات.
هناك تقرير عام ٢٠٠٧ الصادر عن معهد الدراسات التربوية بعنوان "تشجيع الفتيات في الرياضيات والعلوم". قام فريق المؤلفين بفحص الدراسات الموجودة وتوصل إلى خمس توصيات، وتصنيفًا لكمية الأدلة الداعمة لكل منها. التوصية رقم ٣ هي "تعريف الفتيات بنماذج قدوة من النساء اللاتي نجحن في الرياضيات والعلوم"، لكن اللجنة صنفت "مستوى الأدلة التي تدعم هذه التوصية على أنه منخفض".
هذه الفكرة لم تعجب القاعة وبالنسبة للدراسات القائمة على الاختبار على وجه الخصوص، لقد أظهرت تحليلات متعددة أنه بحلول الوقت الذي تصل فيه النساء إلى الجامعة، تتأثر الصور النمطية التي تقول بأن أداءهن سيكون أسوأ في الاختبارات وعندما قيل لطلاب الجامعات إنهم سيخضعون لاختبار لقياس قدراتهم في الرياضيات، وهي عبارة أظهرت أنها تثير تهديد الصورة النمطية، كان أداء الرجال والنساء متساويين. أما عندما قيل لنصفهم أيضًا أن "اختبار الرياضيات هذا لم يُظهر أي اختلافات بين الجنسين في الأداء أو القدرة على الرياضيات"، وهو ما يُفترض أنه ينفي تهديد الصورة النمطية للنساء، كان أداء النساء أفضل بكثير من الرجال.
وأخيرًا لكل مجتمع ذكريات جماعية مختلفة؛ لكن سياسة الذاكرة تسعى إلى رسم ذاكرة جماعية مؤسسية على غرار نموذج مجتمعي محدد، مع الاستفادة من هذه الذاكرة، فالتعظيم من إنجازات النساء العلمية سيؤدي إلى خلق بيئة مراعية لمنظور النوع الاجتماعي مما يؤدي الى تذكر قدوة نسائية تشجع الفتيات على الإبداع.