عالقون في غزة.. آلاف المصريين يستغيثون: أعيدونا من الجحيم

"رغبتُ كأي أنثى في وضع مولودي في حضن أمي. قدمت إلى غزة قبيل الحرب بشهر واحد. هنا في منطقة تل الهوا، حيث تقطن عائلتي. كان كل شيء مثالي، وأنا أغفو يوميًا بين يدي أمي، وأفيق على رائحة خبزها، وهي تمشط جدائلها البيضاء. لكن في لحظة حل كابوس مزعج. بات صوت الصواريخ وسحقاتها كل ما نشهد. جحيم مستعر، وموتى يخالطون التراب بالدم، وتنهيدات وآلام، ثم جاءت اللحظة وقُصف منزلنا وتشردنا إلى الحدود مع مصر. لم أرغب في الهروب بقدر ما رغبت في رؤية وليدي للحظة".

"عزة" -اسم مستعار- واحدة من المصريين/ات العالقين/ات ضمن آلاف غيرها على الحدود، ينتظرون لحظة دخول بلدهم. تقول: "لولا رضيعي ما تركت أخوتي يصارعون وحدهم بحثًا عن ملجأ تحت قصف الاحتلال.. غزة تُباد ورائحة الموت في كل مكان".

عالقون بين الجحيم والمعبر

داخل غزة، تجاوز عدد الشهداء أكثر من 10 آلاف فلسطيني، نصفهم تقريبًا من الأطفال، جراء الغارات المتواصلة والهجوم البري الذي قسم القطاع إلى شطرين، شمالي وجنوبي، تمطرهما طائرات وبوارج ومدافع الاحتلال، ردًا على عملية "طوفان الأقصى" في السابع من أكتوبر الماضي.

عالقون في معبر رفح
عالقون في معبر رفح

بينما على الحدود يقف مصريون عالقون بين القطاع ومعبر رفح يشكون تجاهل معاناتهم: "لماذا لا تتحدث مصر عن الجالية المصرية في غزة بين انعدام سُبل المعيشة وجحيم القصف؟".

هذا السؤال الذي لا يزال عالقًا معهم على الحدود دون إجابة واضحة من السلطات المصرية، يصطدم صراحة مع ما تقره المادة (88) من الدستور. وتنص على أن "تلتزم الدولة برعاية مصالح المصريين المقيمين بالخارج، وحمايتهم وكفالة حقوقهم وحرياتهم".

اقرأ أيضًا: كيف ومتى تنتهي الحرب على غزة؟

يستصرخ الآلاف هنا كل الجهات، وينشدون إدراجهم بكشوف وزارة الخارجية المصرية، ضمن المقررة عودتهم إلى مصر عبر معبر رفح؛ بوابة النجاة الوحيدة من الحرب المستعرة في الداخل. في وقت أشارت بيانات إدارة معبر رفح اليومية، إلى نحو 100 مصري فقط عبروا عند فتح حركة المرور، في مقابل مئات من الجاليات الأجنبية الأخرى التي لديها كل أولوية المرور، إلى جانب أصحاب الحالات الخطرة من الغزاويين.

مصريون يستغيثون بـ"فكر تاني" لإيصال صوتهم

كيف بدأ الجحيم؟

في السابع من أكتوبر الماضي، صدمت حركة "حماس" العالم وسلطة الاحتلال بعملية عسكرية في مستوطنات غلاف غزة وهجمات صاروخية غير مسبوقة على الداخل المحتل. الأمر الذي مثل قفزة نوعية جديدة في تكتيكات المقاومة ضد الاحتلال ضمن ما أطلق عليه "طوفان الأقصى".

أسفرت هذه العملية عن قتلى وجرحى في صفوف المستوطنين مع ارتباك الاحتلال في التعامل مع الوضع الجديد كليًا. بينما تمكنت عناصر للمقاومة من العودة إلى القطاع بنحو ما يزيد عن 150 إسرائيليًا، قبل أن يستفيق الاحتلال من صدمته ويبدأ عمليته "السيوف الحديدية".

الغارات الإسرائيلية على غزة
الغارات الإسرائيلية على غزة

خلال عملية "السيوف الحديدية"، لم تترك طائرات الاحتلال موقعًا مدنيًا واحداً دون تدميره، لتغرق شمال القطاع في ركام المباني التي بقي أسفل أنقاضها مئات الجثامين عالقة يصعب الوصول إليها وانتشالها. في وقت حاول الاحتلال بكل الطرق إجبار الفلسطينيين داخل مناطق الشمال والوسط على النزوح جنوبًا مستخدمة كل وسائل الحصار من قطع للكهرباء والمياه وإمدادات الوقود، التي جعلت سكان القطاع في وضع كارثي، نازحين في مستشفيات مهددة بالقصف في كل لحظة.

حتى الجنوب الذي دعا الاحتلال أهالي غزة إلى النزوح إليه، لم ترحمه الطائرات وبوارجه من القصف الذي أسقط مئات الشهداء. الأمر الذي بات إعلانًا صريحًا بالإبادة ومحاولة تهجير سكان القطاع، الذي طلب الكيان الإسرائيلي من أمريكا والدول الأوروبية الضغط على مصر من أجل نقلهم إلى سيناء. وهو ما رفضته القاهرة بشدة، وأكدته تصريحات وزير دفاع الاحتلال يوآف غالانت في التاسع من أكتوبر الماضي، التي عبرت عن سياسة التجويع والعقاب الجماعي وتجريد شعب بأكمله من إنسانيته، التي يتبعها الكيان الإسرائيلي.

سيخرج إلى الدمار

وسط خيمة إيواء بدائية تقف "عزة" قبيل رفح الفلسطينية، يبدو عليها الوهن، تصرخ من وجعها، فطفلها الوحيد على وشك الوصول، بينما زوجها في مصر يحارب من أجل عودتها ووليده. تصرخ تستنجد: "مارست حقي في الحياة بأن أعود إلى أرض أجدادي وعائلتي". تعبر بصوت مكتوم عن وجعها وآلام المخاض التي فاجأتها: "خايفة أموت أو يموت وليدي. أحتاج لأدوية فورية وأمي تفرقت عني في القصف، وحتى وصولي إلى حدود بلدي لم يسعفني، لن أنجو إلا إذا حدثت معجزة".

خيمة إيواء في غزة
خيمة إيواء في غزة

وفق تقديرات غير رسمية؛ يقدر عدد المصريين العالقين في غزة بنحو 40 ألف مصري، بعضهم يحمل جنسية مصرية خالصة في حين يُصنف آخرون كمزدوجي الجنسية (فلسطينية- مصرية). فهناك في غزة، تمتزج الأمكنة والأزمنة، وللمصريين حضور دائم، لم تنه الحروب المتواصلة اتصاله. هم جزء من نسيج بدأ غزله في عهد محمد علي باشا.

ففي العام 1831، قاد إبراهيم باشا غزوًا ضم الأراضي الفلسطينية وخط الشام، لتصبح فلسطين تحت إدارته، وتصبح منذ قرابة قرنين من الزمان جزءًا مهمًا في تكوين هوية مصر القومية، وفق ما ذكرته الكاتبة غادة تلحمي في كتابها: "فلسطين والهوية القومية المصرية".

وحسب مصادر تاريخية، أرسل محمد علي 6 آلاف مزارع مصري كبداية لتوطينهم في فلسطين، تحقيقًا لمآربه السياسية والاقتصادية. وصلوا إلى 18 ألف مصري يستوطنون مناطق في فلسطين مثل حيفا ويافا وغزة عند انتهاء حكمه، لينصهروا مع الفلسطينيين ويصبحوا جزءًا من نسيج طويل يمتد.

أن أكون هنا

وسط مئات الاستغاثات التي قابلتنا، كان هناك دومًا طرفان؛ أحدهما يبدأ من مصر ليصل إلى القطاع المحاصر. عائلات فصل بينها وبين ذويها معبر حدودي مغلق.

تقول ابتسام إن والدتها الفلسطينية/ المصرية غادرت لزيارة العائلة في وسط قطاع غزة مطلع أكتوبر الماضي. كان من المفترض أن تعود؛ لكن اندلعت "حرب التهجير والتطهير والإبادة" -حسب وصفها-، لتبقى الأم هناك رهن الاحتجاز ومن حولها الأنقاض والركام ودخان النيران المشتعلة والجوع. تستغيث "ابتسام": "إن كان لابد من التهجير فما ذنبنا كمصريين؟".

الدمار الذي لحق بغزة جراء العدوان الإسرائيلي
الدمار الذي لحق بغزة جراء العدوان الإسرائيلي

كان التهجير موضوعًا رئيسيًا في التاريخ الفلسطيني. فخلال العام 1948 هُجّر أكثر من 80% من الفلسطينيين من مساحة 80% من أرض فلسطين التاريخية التي استولت عليها الحركة الصهيونية، وأسست عليها دولة سمتها "إسرائيل".

قُتل خلال هذه الفترة قرابة 13 ألف فلسطيني، وهُجر أكثر من 750 ألفًا من بيوتهم ليصبحوا لاجئين. تبقى فقط -وفق إحصاءات فلسطينية- نحو 150 ألف فلسطيني، لم يتعرضوا للتهجير داخل الحدود المحتلة.

وفي حرب العام 1967، نزح 300 ألف فلسطيني آخرين، معظمهم إلى الأردن. بينما ترفض سلطة الاحتلال منذ العام 1948 عودة اللاجئين إلى ديارهم؛ ما يعني أن خروج أي فلسطيني هو انقطاع صلته للأبد بأرضه. الأمر الذي دعا السلطة المصرية إلى اتخاذ قرارها بعدم فتح المعبر للنزوح الجماعي للفلسطينيين، كي لا يتخذه الاحتلال ذريعة لإخلاء غزة. وهو ما عبر عنه الرئيس السيسي، وأيده مصريون خرجوا إلى الشوارع بالآلاف، رافعين شعارات "لا للتطهير العرقي والتغيير الديموغرافي لغزة وشعبها".

لكنه رفض جاء على حساب المصريين العالقين في غزة ممن تربطهم بأهلها صلات نسب ومصاهرة وعمل. تعسرت مسألة خروجهم من القطاع، في مقابل الضغط على مصر لتسريع مغادرة الأجانب.

1.5 مليون نازح

ووفق تقرير حديث للصحة الفلسطينية، فإن عمليات النزوح الداخلية كبيرة، وصلت إلى مليون ونصف المليون شخص. من هؤلاء نحو 690 ألف شخص يقيمون في 149 منشأة تابعة للأونروا، و122 ألف شخص في المستشفيات والكنائس والمباني العامة. ذلك بالإضافة إلى نحو 99 ألف شخص يقيمون في 82 مدرسة فلسطينية. بينما الباقون الذين تتراوح أعدادهم ما بين 550-600 ألف نازح هم مع عائلات مضيفة.

نازحون في أحد مستشفيات غزة
نازحون في أحد مستشفيات غزة

ويبقى عدد المصريين وتوزيعهم في غزة غير محدد لعدم توافر إحصائية رسمية بهم. وإن كانت الجالية المصرية في القطاع تُقدر عددهم بنحو 40 ألف شخص تقريبًا، يشكلون جزءًا مهمًا من النسيج المجتمعي في المدينة المحاصرة.

ذلك في حين وصلت إلى منصة "فكر تاني" استغاثات بالمئات من أسر العالقين المصريين في القطاع، ضمنتها المنصة في قائمة أولية بأسماء لا تزال قابلة للزيادة من ورود مئات الاستغاثات الأخرى.

للاطلاع على قائمة المصريين الذين وصلت استغاثاتهم إلى "فكر تاني".. اضغط هنا

تقول "ابتسام" التي لا تزال تنتظر عودة والدتها المحاصرة في القطاع: "أؤيد الموقف المصري كمصرية، ويبقى قلبي مشتعلًا على عائلتي الفلسطينية هناك. الأمر معقد، لكنهم اختاروا عدم النزوح، المغادرة ليست مطروحة لديهم. لكن ما ذنب المصريين العالقين هناك؟ الفلسطينيون لن يغادروا أراضيهم أما المصري فلابد من إجلائه فورًا".

وضع صحي كارثي

تعاني والدة "ابتسام" من أمراض القلب والسكري وتحتاج إلى أدوية عاجلة، يصعب توفيرها في ظل الوضع الصحي الكارثي الذي يعيشه القطاع. تضيف: "إن لم تستشهد أمي في القصف ستموت بسبب نقص الأدوية، لابد من تدخل عاجل، أنقذونا".

وحسب وزيرة الصحة الفلسطينية مي الكيلة، أمس الأربعاء، فإن 18 مستشفى في غزة خرجت من الخدمة، من أصل 35 مستشفى، وأيضًا 51 من أصل 72 مركز رعاية صحية أولية.

وفقدت الوزارة الاتصال تمامًا مع الطواقم الطبية العاملة بمستشفى القدس، الواقع بمنطقة تل الهوا، نتيجة قصف الاحتلال الإسرائيلي لمحيطه، حتى أن المُولّد الكهربائي الرئيسي للمستشفى توقف تمامًا بالأمس عن العمل؛ لعدم وجود وقود؛ ما يعني توقف الكهرباء عن غرف العمليات والعناية المكثفة وضخّ الماء.

وفي محاولة من إدارة المستشفى الذي يضم آلاف النازحين والمرضى، عملوا على استخدام مُولّدين أصغر لتوفير الكهرباء للأغراض الحيوية، ومحاولة استخدام الطاقة الشمسية لضخ المياه. لكن وفق متحدث الهلال الأحمر الفلسطيني، فإن الوضع هناك حرج، ولا غذاء أو ماء بمستشفى القدس.

اقرأ أيضًا: التضامن اليهودي مع غزة

كما استهدف الاحتلال مولدات الكهرباء وألواح الطاقة الشمسية في مستشفى الشفاء ليؤدي إلى انقطاع كامل للكهرباء.

حسب بيانات حصلنا عليها فإنه وحتى يوم السادس من نوفمبر شنت قوات الاحتلال أكثر من 270 اعتداء على طواقم طبية ومستشفيات عامة، وفقد أكثر من 192 شهيدًا من الكوادر الطبية، وتم إغلاق 71% من مرافق الرعاية الأولية بسبب الأضرار أو نقص الوقود.

ما بقي يعمل من مستشفيات غزة اكتظ بالنازحين والمصابين وجثامين الشهداء
ما بقي يعمل من مستشفيات غزة اكتظ بالنازحين والمصابين وجثامين الشهداء

كما انعدم وجود المخدر المطلوب لإجراء العمليات الجراحية ما استدعى قيام الأطباء بها دون مخدر وصولًا إلى عمليات توليد قيصرية للنساء أيضًا.

ووصل عدد المصابين لأكثر من 24 ألفًا داخل غزة وحدها بينما في الضفة الغربية ما يقارب 2250 مصابًا. فيما ارتفع عدد الشهداء أمس ليصل إلى 10700 شخص و3 آلاف مفقود تحت الأنقاض.

وأشار تقرير لوزارة الصحة إلى أن هناك 2000 مريض سرطان قد توقفوا عن تلقي العلاج نهائيًا منذ بدء الحرب، ما ينذر بتدهور حالتهم، ولم يصل منهم إلى مصر سوى تسع حالات فقط، في حين أن 155 في المئة من النازحين قسرًا يعانون من إعاقات مختلفة ولا يتلقون علاجًا مناسبًا.

والمثير أنه رغم انتشار المصريين في كافة أحياء غزة، وتعرضهم للمصير نفسه إلا أنه لم تصدر أي بيانات رسمية مصرية أو فلسطينية عن عدد القتلى أو الجرحى منهم؛ رغم رصدنا لعدد من الوفيات في أثناء مقابلتنا التليفونية مع العالقين هناك.

أين المصريون في غزة؟

بالتواصل مع مصادرنا داخل القطاع، علمنا أن المصريين في غزة، يتوزعون بين مناطق الشمال والوسط والجنوب الغربي للقطاع في تل الهوا ودير البلح وتل السلطان وخان يونس ورفح، يصارعون للبقاء على قيد الحياة والحفاظ على أملهم في العبور إلى أراضيهم.

استغاثة لإنقاذ مصرية عالقة بغزة

يلتقطون يوميًا إشارات الاتصالات التي باتت ضعيفة للغاية، نتيجة القصف المتكرر لشركات الاتصالات وشبكاتها، وانقطاع خدمات الإنترنت، يصعدون إلى أعالي البنايات الباقية لالتقاط إشارة تواصل مع ذويهم في الجانب المصري، لإخبارهم أنهم لا يزالون على قيد الحياة.

الغارات المتواصلة لم تتوقف في القطاع
الغارات المتواصلة لم تتوقف في القطاع

"افتحوا المعبر، سندفن تحت الأنقاض دون وداع"، يقول عادل -اسم مستعار- حاول التواصل مع عائلته خلال اليومين السابقين؛ لكنه لم يوفق. يحمل "عادل" فوق صدره حياة ثمانية أفراد، أزواج وأبناء مصريين وزوجتين فلسطينيتين. يقول: "مع الأسرة هناك خمسة أطفال، منهم ثلاث توائم في عمر الثلاثة أشهر، يحتاجون بشكل عاجل إلى لبن الأطفال وإلا سيقتلون جوعًا".

هربت العائلة بعد تدمير منزل عائلها الفلسطيني، ونزحت بعد محاولات لتصل إلى مدرسة تبعد عن معبر رفح مسافة كيلو ونصف الكيلو متر مربع.. متى يعودون؟ الأطفال دول هيبقوا أحياء لحد امتى في الوضع ده؟".

والسبت، أعلنت هيئة المعابر الفلسطينية عن السماح بعودة 55 مصريًا من العالقين بقطاع غزة إلى مصر. كما ذكر بيان لوزارة الخارجية المصرية، اليوم الخميس أن معبر رفح يستعد لاستقبال 7 آلاف أجنبي من المقرر إجلاؤهم من قطاع غزة. وذكر البيان أن مساعد وزير الخارجية للشؤون القنصلية والمصريين في الخارج، إسماعيل خيرت، بحث خلال اجتماع، أمس، مع دبلوماسيين أجانب "الاستعدادات الرامية إلى تسهيل استقبال وإجلاء المواطنين الأجانب من غزة"، مشيرًا إلى أن عددهم "نحو 7 آلاف مواطن أجنبي يحملون جنسية أكثر من 60 دولة". فيما لم يذكر البيان شيئًا عن العالقين المصريين.

شعره كيرلي وأبيضاني وحلو

"يوسف سبع سنين شعره كيرلي وأبيضاني وحلو"؛ ستظل هذه الكلمات للأم المكلومة بفقدان ابنها "يوسف" صاحب السبع سنوات باقية لا تُنسى. لا يمكن نسيان فظاعة الحرب غير المسبوقة التي استهدفت الأطفال والنساء، وأمطر خلالها جيش الاحتلال القطاع بكمية من القنابل تفوق ما أحدثته قنبلتي هيروشيما وناجازاكي في الحرب العالمية الثانية.

ما بين الأم هناك والخالة هنا في القاهرة، ترسل "روا" استغاثة عاجلة لعلها بندائها تنقذ ما تبقى من أسرتها. تقول: "أنا خالة يوسف الأبيضاني الحلو أبو شعر كيرلي، إخوتي بغزة ومعي والدتي في القاهرة، أريد استرجاع عائلتي، لا أريد لهم نفس مصير يوسف.. ساعدونا".

يوسف شعره كيرلي وأبيضاني وحلو
يوسف شعره كيرلي وأبيضاني وحلو

"روا" و"رشا" -والدة يوسف- شقيقتان لأم مصرية، وأب فلسطيني، حاصلتين وأشقائهما على الجنسية المصرية عن طريق الأم. "روا" هنا مع والدتها، بينما "رشا" عالقة مع أسرتها في خان يونس بعد قصف منزلهم بالكامل، تبحث أسرتها سٌبل عودتها قبل أن تلحق بمصير ابنها "يوسف".

أمي وزوجتي وابننا الرضيع

إجلاء الأجانب من معبر رفح
إجلاء الأجانب من معبر رفح

"أنا مصري فلسطيني من أم مصرية، أمي في خطر وزوجتي وابني الرضيع محمد، عمره فقط ستة أشهر، لم أره. سافرت زوجتي وأمي إلى أقارب لنا في غزة قبيل الحرب بستة أشهر ووضعت وليدي هناك وسط أحضان الأقارب في قرية على الحدود الجنوبية. أما أمي تعرضت لإصابة وهي في السبعين من عمرها الآن، لن تتحمل"؛ احتجزت كل عائلة خالد سليم هناك في غزة.

يقول: "كانوا قد حصلوا بالفعل على إجازة عبور في يوم 10 أكتوبر الماضي، لكنهم لم يتمكنوا قط من الوصول إذ اندلعت الحرب ومنعت عبورهم.. أزمة المعبر ليست جديدة، خاصة للمصريين، إذ تتعنت حكومة غزة في منحنا تصاريح الخروج، فقط في كل مرة تسمح بعبور 50 شخصًا، وهو رقم ضئيل مقارنة بأعداد المصريين هناك.. لكن أليس على مصر أن تعمل على إخراج رعاياها كما تحرص على إخراج الرعايا الأجانب".

وفق العالقين على المعبر، لم تسمح السلطات المصرية - حتى كتابة هذه السطور- إلا بخروج 100 مصري فقط مع فتح المعبر.

طفلة وحيدة تحت القصف

وسط الحصار تقف "ندى هشام" طفلة وحيدة بعد أن فقدت جدها الفلسطيني. كانت قد غادرت إلى غزة لدراسة الثانوية العامة، ثم اندلعت الحرب التي أجبرت جدها على مفارقتها موتًا. يقول والدها: "ابنتي صغيرة 17 عامًا فقط، وهي الآن وحيدة ومشردة بين مناطق الإيواء بعد وفاة جدها، وقد حاولت تسجيل دخولها إلى مصر في وزارة الخارجية، وفي السفارة المصرية برام الله وأيضًا لدى مسؤول الجالية المصرية في غزة، لكن لم نتلق أية ردود".

أن نكون هناك

يقول "إياد" -المصري المقيم في خان يونس التي تتعرض لقصف مكثف: "ذهبت لزيارة أخوالي هنا بعد انقطاع من العام 2009، لم أكن أعلم أنها ربما تكون زيارة الموت. قُصف منزل أسرتي هنا واستشهدت زوجتي الفلسطينية، وأنا عالق في منزل جار لنا لم أكن أعرفه، فالمنازل في غزة باتت ملاذًا للهاربين والموتى على حد سواء".

يعبّر "إياد" عن دهشته من النظام المصري الذي لا يسمح بإجلاء رعاياه أولًا، متخذًا الإجراءات الأولية لأي دولة في مثل تلك الظروف الحربية. متساءلًا: "يتركوننا للموت هنا، ويقومون بإجلاء رعايا الدول الأجنبية يوميًا بالمئات، ثم يخرجون إلى الإعلام ليعلنوا تعنت جانب الاحتلال في السماح بنقل الجرحى الفلسطينيين. ماذا عن المصريين أليس هناك من يتحدث عنهم، حتى الصحافة لم نسمعها تتحدث عنا وكأننا على الهامش وسط الحرب هنا.. ألا يعلمون أن تمركز الجنسيات الأجنبية في بعض المناطق يمنع الاحتلال من قصفها.. هم بإخراج الأجانب أولًا يضعونا في منتصف كرة نار مشتعلة".

تقول "منى بدر" مصرية مقيمة في غزة مع أسرتها، إنهم يحتاجون جميعًا إلى رعاية طبية عاجلة، خاصة صغيرها مريض القلب، مضيفة: "ابني مريض ويحتاج لجلسات تنفس اصطناعي عاجلة، ولا تتوفر الأدوية اللازمة، وترفض المستشفى هناك حالته نتيجة الضغط، أحتاج فقط إلى العودة لمصر".

مستشفى في غزة
مستشفى في غزة

وتقول "رشا الأخرس" إن والدها وأختها سافرا إلى غزة لزيارتها قبيل الحرب، وتشرح الوضع داخل المستشفيات للمصريين: "والدي مريض كلى، ويحتاج إلى عملية غسيل دورية، ونظرًا لصعوبة الحصول على خدمات طبية الآن في داخل القطاع، فإنه يذهب فقط ساعتين أسبوعيًا لإجراء غسيل الكلى وهي غير كافية، أما شقيقتي فهي تعاني من تعب شديد وتحتاج لرعاية عاجلة، قبيل الحرب مباشرة كانت قد أجرت عملية حقن مجهري، ورزقت بجنينها الأول ثم سافرت مباشرة للحاق بوالدي، لكن قامت الحرب، ما يضعها في وضع حرج صحيًا".

وتتكرر الاستغاثة، حيث يخبرنا "محمد علام" أن زوجته الفلسطينية سافرت لزيارة أهلها في شمال غزة، ومع القصف المتكرر نزحت إلى الجنوب في مدرسة الخنساء الفلسطينية عند رفح، وتعاني مع غيرها من نقص حاد في الغذاء والماء ولا يوجد علاج مناسب لحالتها المتعثرة كونها حامل في شهرها الأخير.

مصرية عالقة في غزة تستغيث بـ"فكر تاني" 

كما أن تناول الماء الملوث لأيام طويلة أثر عليها صحيًا. ويختتم: "تحتاج فقط للعبور من رفح الفلسطينية إلى رفح المصرية، أليس الصبح بقريب؟". بينما من قلب مستشفى ناصر بخان يونس، وقف الطبيب المصري سامي جمعة مذهولًا بعد أن بات محاصرًا بالمرضى واللاجئين من جهة. ومن جهة أخرى، تعلق فؤاده بأسرته التي رافقته في السلم والحرب، لينتهي بهم الوضع في خيمة إيواء خلف المستشفى.

يقول الطبيب: "مع أسرتي كاملة، أمي وأبنائي وأخي وأولاده وأحفادي، لا نعلم مصيرنًا بعد أن باتت المستشفيات هدف أول في مرمى الاحتلال، لكنا نحاول أن نحيا".

كانت تلك بعض من استغاثات وصلتنا بعد أن تبنينا مبادرة "عودة المصريين من غزة"، كلمات مقتضبة وسريعة وصارخة. وتتابعت الاستغاثات من عالقين يرغبون في العودة إلى مِصرهم، بعد أن ذاقوا الأهوال وسط انقطاع خدمات المياه والكهرباء والاتصالات، هناك من وسط الركام والدماء وصيحات التحدي والجزع، حيث لا يجدون خبزًا بعد أن توقفت كافة مخابز شمال القطاع تمامًا، بعد تدمير 11 منها في شمال القطاع وثمانية في جنوبه، وفق مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.

أجمع المصريون العالقون على عدم تعاون وزارة الخارجية المصرية والسفارة المصرية برام الله، حيث لم يتلق كثير منهم أية ردود على طلباتهم للسفر، ولم يتسن لهم الوصول سوى لجمعية "الجالية المصرية" وهي مؤسسة أهلية تم إنشائها منذ سنوات، وتعمل وحيدة على مساعدة المصريين بالقطاع ولم تحصل على أي دعم أو اعتراف من الحكومة المصرية حتى الآن.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة