الأمر مسألة وقت فقط قبل أن تفرغ ساعة الدعم الأمريكي المطلق الذي تحظى به إسرائيل في الحرب على غزة. هكذا تُقرأ المؤشرات الحالية للحرب.
إذ خسرت تل أبيب صورة الضحية ومعها حق الدفاع عن النفس. بينما تزايد -في المقابل- الحراك الشعبي الداعم للقضية الفلسطينية عالميًا. وكان ذلك بصورة ضاغطة أكثر من أي وقت مضى على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين الذين منحوا "كارد" التصرف بحرية للجيش الإسرائيلي في بداية المعارك والآن هم مضطرون لسحبه شيئًا فشيئًا.
وهو ما يراه أيضًا إلداد شافيت الباحث المتخصص في دراسات الشرق الأوسط، في تحليل حديث نُشر بمعهد دراسات الأمن القومي الإسرائيلي (INSS).
يقول: إن إسرائيل عليها الآن أن تتجنب اعتبار صبر الولايات المتحدة -على غاراتها والحصار التام لغزة- أمرًا مفروغًا منه، وأن تتذكر أنه عند نقطة معينة، ربما قريبًا إلى حد ما، لن تعود الساعة السياسية الأمريكية متزامنة مع الساعة العسكرية الإسرائيلية. لذا، لابد من إعطاء الأولوية لسياسة تدعم الحفاظ على الالتزام الأميركي وتأمين مساحة العمل السياسي لتمكين استمرار القتال حتى تحقيق الأهداف العسكرية.
على الأرض، قدمت الولايات المتحدة كل ما يمكن أن تقدمه دولة ما لحليفها الرئيسي في المنطقة. فمنذ بدء الهجوم العنيف الذي أسقط عشرات الآف بين قتيل وجريح في قطاع غزة الذي يمثل الأطفال نصف عدد سكانه تقريبًا، واصلت الإدارة الأمريكية، بقيادة الرئيس جو بايدن، تقديم دعمها المطلق لإسرائيل.
وقد أكد الرئيس وكبار المسؤولين في إدارته "مرارًا وتكرارًا" أن لإسرائيل "الحق والواجب في الدفاع عن مواطنيها". معلنة شرطًا أساسيًا لإنهاء قصف المدنيين في القطاع، هو: تدمير حماس واقتلاعها تمامًا. وهي هنا تكاد تقدم الدعاية الإسرائيلية نفسها لهذه الحرب.
يقول "شايفت" -المسؤول الاستخباراتي الإسرائيلي السابق- إن الوضع في بداية الحرب بشكل عام كان توافقًا كاملًا من الإدارة الأمريكية على هدف هذه المعارك كما حددته إسرائيل.
كرر وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن ذلك مرة أخرى في مؤتمر صحفي مع وزراء الخارجية العرب في 4 نوفمبر الجاري.
ما الذي يدفعها لدعم الحرب على غزة؟
أظهر بايدن -خلال هذه الحرب- دعمًا عاطفيًا غير مسبوق لإسرائيل، أكد أنه لا يرى ذلك مجرد جولة أخرى من المواجهات بين إسرائيل وحماس. بل ونظر إلى هذه الحرب على أنها جزء من الصراع العالمي بين "الخير" و"الشر"، وأنها ضرورية ضد محور الشر "الجديد"، الذي يشمل في نظر بايدن الصين وروسيا وإيران والعناصر التي تدعمها.
هنا، يقول "شافيت" إن الإدارة الأمريكية ترى في هذه الحرب على غزة فرصة لإعادة تشكيل الشرق الأوسط. صرح بايدن بذلك فعلًا. فقال إنه لن تكون هناك عودة إلى "الوضع الراهن كما كان في 6 أكتوبر".
ومن وجهة نظره، فإن هزيمة حماس على يد إسرائيل ستساعد في تقوية "الدول المعتدلة" في المنطقة، وتعزيز الحل السياسي للقضية الفلسطينية، وتشجيع التطبيع بين إسرائيل والدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية.
كما أنه من ناحية أخرى، تنظر الإدارة الأمريكية إلى فشل إسرائيل في تحقيق أهدافها ضد حماس باعتباره يعزز دوافع إيران وحزب الله لتحدي إسرائيل. الأمر الذي سيؤثر على مكانة الولايات المتحدة في المنطقة وخارجها.
ومع ذلك، فإن موقف الإدارة مهم أيضًا على الجبهة الداخلية للولايات المتحدة: مع تزايد الانتقادات لإسرائيل والحرب على غزة، واقتراب الانتخابات الرئاسية الأمريكية التي ما من شك أن نتائجها ستتأثر بموقف بايدن حاليًا.
التغير في الحوار حول غزة
ومع ذلك، فإن الوضع الإنساني في غزة سيطر على الحوار بين القيادتين الأمريكية والإسرائيلية في الفترة الأخيرة، كما يرى "شافيت"، الذي يدفع بذلك كمؤشر على تراجع الدعم الأمريكي المطلق لهذه الحرب، ومن ثم فإنها قد توشك على التوقف قبل أن تحقق إسرائيل مبتغاها منها.
يقول "شافيت" -في تحليله- إن إسرائيل اضطرت مؤخرًا لتعديل سياستها بما يتوافق مع مطالب الإدارة. فبات الحوار يركز حاليًا على المطالبة بوقف إنساني للحرب، للسماح بإطلاق سراح الرهائن. وإن كانت الإدارة الأمريكية تؤكد أنها لا تتحدث عن وقف إطلاق النار، الذي تعتقد أنه يخدم مصالح حماس.
ويضيف المحلل الإسرائيلي أنه رغم عدم وجود اتفاق إلى الآن حول الهدنة الإنسانية في غزة، فإن الولايات المتحدة باتت تدعو إسرائيل صراحة إلى التقيد الصارم بقوانين النزاعات المسلحة. بما في ذلك فصل العدو عن السكان المدنيين، وبذل الجهود لتجنب إيذاء المدنيين قدر الإمكان.
وطالبت الإدارة الأمريكية بإدراج هذه الجهود في الخطط العملياتية. وهو ما يبرر به "شافيت" التحركات الإسرائيلية المتعلقة بالفصل بين شمال القطاع وجنوبه، وتحديد "المناطق الآمنة" للسكان المدنيين. لكنه أغفل اتهام تل أبيب بارتكاب مجازر بحق المدنيين في جنوب القطاع أيضًا.
مصير غزة.. قضية اليوم التالي
يشير "شافيت" إلى انقسام واضح بين الإدارتين الأمريكية والإسرائيلية في الحديث عن مسألة "اليوم التالي": مستقبل غزة والضفة الغربية بعد الحرب.
ويعقب على ذلك بأنه ليس من الواضح إلى أي مدى ستؤثر هذه الخلافات على المتنفس الذي تمنحه الإدارة لإسرائيل. ذلك رغم أنه لا شك في أن غياب الاستعداد الإسرائيلي لمناقشة الموضوع سيكون له تأثير سلبي على صبر الإدارة على الحملة العسكرية المستمرة، وسيزيد من شكوك حول أهداف إسرائيل لليوم التالي.
اعتبارات الإدارة الأمريكية
ويقسم "شافيت" اعتبارات الإدارة الأمريكية في هذه الحرب بين 5 ملفات رئيسية:
الحملة العسكرية على غزة
يقول "شافيت" -باعتباره متخصصًا في قضايا الوضع الإقليمي- إن الإدارة الأمريكية تريد للحرب الإسرائيلية على غزة أن تنجح.
ظهر ذلك في المشورة العسكرية الأمريكية التي وفرتها الإدارة لإسرائيل، على الرغم من أنه لا يبدو أن لديها خطة عسكرية بديلة لضمان نجاح العملية، على حد قول "شافيت".
لكنه مع ذلك يشير إلى أمر في غاية الأهمية فيما يتعلق بانتهاء الحرب على غزة. يقول: "إذا تم النظر إلى الجيش الإسرائيلي على أنه غارق في الوضع وغير قادر على تحقيق هدف هزيمة حماس، فإن الإدارة ستكون أقل رغبة في منح إسرائيل الوقت".
الوضع الإنساني في غزة
يقول "شافيت" إن الإدارة الأمريكية تستثمر حاليًا في الجهود الرامية إلى تسليط الضوء على أهمية ضمان المساعدات الإنسانية لقطاع غزة، بما في ذلك الجهود الرامية إلى تحقيق "الهدنات الإنسانية"، والتي تقول إنها ستساعد في إطلاق سراح الرهائن ومساعدة المدنيين في غزة دون الإضرار بالمجهود الحربي الإسرائيلي ضد حماس.
"رغم أن الإدارة الأمريكية لا تزال تعارض وقف إطلاق النار. لكن أي حادث يؤدي إلى سقوط أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين (قصف مستشفى؟) و/أو أزمة إنسانية حادة (تفشي الأمراض؟) يمكن أن يدفع الإدارة إلى المطالبة بوقف إطلاق النار"؛ يضيف "شافيت".
التدهور الإقليمي
منذ بداية خذخ الحرب، تبذل الإدارة الأمريكية جهودًا كبيرة لمنع التدهور الإقليمي. بينما بعثت برسائل عديدة إلى إيران وحلفائها عبر عدة قنوات تحذرهم من محاولة توسيع الحملة، الأمر الذي دفع واشنطن إلى احتواء ردة فعلها تجاه العجمات ضد قواعدها العسكرية في العراق وسوريا.
ومع ذلك، فإن تصعيد الأعمال العدائية بين إسرائيل وحزب الله و/أو الأعمال ضد أهداف أمريكية (خاصة إذا كانت تنطوي على العديد من الضحايا) سوف تجبر الإدارة الأمريكية على الرد، ومن ثم قد يزداد الوضع تفاقمًا على عدة جبهات، وهو ما تخشاه الولايات المتحدة، وفق "شافيت"، وبالتالي قد يدفعها إلى دعوة لإطلاق النار الفوري.
سلوك الحكومة الإسرائيلية
يشير "شافيت" هنا إلى المنطق الذي يكمن وراء دعم بايدن للعمل العسكري: أن نجاحه سيفتح الطريق أمام عملية سياسية إسرائيلية فلسطينية ويخدم رؤية الدولتين. وحتى لو لم يكن من الواضح ما إذا كان هذا الهدف قابلًا للتحقيق، فمن المهم بالنسبة للإدارة الأمريكية أن تتصرف الحكومة الإسرائيلية بمسؤولية وأن تتجنب أي أعمال في الضفة الغربية قد تؤدي إلى نسف هذه الرؤية.
ويدين المتحدثون باسم الإدارة الأمريكية بشدة عنف المستوطنين تجاه الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويخشون أن تؤدي مثل هذه الأعمال إلى زيادة تآكل قدرة الولايات المتحدة على دعم إسرائيل، لوجستيًا ومعنويًا.
وعلاوة على ذلك، من الممكن أن تفترض الإدارة أن الوضع السياسي في إسرائيل سيتغير بعد الحملة العسكرية، وهو ما يمكن أن يسهل الترويج للتحركات السياسية.
ويضيف "شافيت" أنه إذا وصلت الإدارة الأمريكية إلى حقيقة أن إسرائيل غير مستعدة لمثل هذه النتيجة، أو حتى أنها تعمل بشكل واعي ضد منطق التسوية السياسية في "اليوم التالي"، فسيكون من الصعب عليها الاستمرار في دعم إسرائيل في سعيها إلى تحقيق هدفها العسكري في غزة.
القضايا الداخلية الأمريكية
يوضح "شافيت" أنه على الرغم من أن الإدارة لا تبدو في الوقت الحاضر قلقة من تداعيات سياساتها على الوضع السياسي للرئيس مع اقتراب عام الانتخابات، إلا أنه من الواضح بالفعل أنه مع تضاعف صور الضحايا المدنيين والدمار في قطاع غزة، ستواجه الإدارة انتقادات متزايدة لدعمها لإسرائيل. خاصة بين شرائح الجمهور التي دعمت تقليديًا الحزب الديمقراطي.
وتشير استطلاعات الرأي التي أجريت في الولايات المتحدة إلى تزايد الانتقادات بين الناخبين الديمقراطيين الشباب. فضلًا عن فقدان الدعم للإدارة بين الناخبين المسلمين. وخاصة في ولايات مثل ميشيجان (التي يبلغ عدد سكانها المسلمين حوالي 3 في المائة). وهو أمر قد يقلب الموازين. في الانتخابات الرئاسية 2024.
هناك أيضًا تقارير إعلامية تتحدث عن "ثورة" تختمر في وزارة الخارجية، بقيادة عناصر تنتقد سياسة الإدارة.
انضم إلداد شافيت إلى معهد الإسرائيلي لدراسات الأمن القومي في أوائل عام 2017. له مسيرة مهنية طويلة في فيلق الاستخبارات التابع لجيش الدفاع الإسرائيلي ومكتب رئيس الوزراء في تل أبيب.
كان مسؤولًا عن صياغة التقييم الاستخباراتي فيما يتعلق بالقضايا الإقليمية والدولية. وفي الفترة 1994-1995 شغل منصب رئيس وحدة الاستخبارات في مكتب السكرتير العسكري لرئيس الوزراء ووزير الدفاع.