نصف بدوية نصف مصرية.. أطفال سيناء

 

إن قمت بزيارة سيناء من قبل فلابد وأن لاحظت انطلاق أطفال سيناء في كل الأنحاء. البعض يبرر طاقتهم الزائدة بسوء التربية، والبعض يلوم الأسرة، يقولون:” على الأرجح أنجبهم الآباء والأمهات وتركوهم للشارع”، بينما هناك من يراهم أطفال، مجرد أطفال، يعيشون الطفولة ويتمتعون بالصحة والأجساد القوية.

غالبًا لا يركز الزوار أو رواد سيناء على ما يمر به هؤلاء الأطفال منذ طفولتهم وانتهاءََ بوصولهم إلى مرحلة الشباب. لا يلاحظ السواد الأعظم من الناس عصامية هؤلاء الأطفال ولا جودة صحتهم وحياتهم بل يكررون لومهم وسبهم مرارًا وتكرارًا.

أغلب الوافدين على دهب يلاحظون دائمًا أن الأطفال من البدو هنا لديهم نفس الملامح، نفس درجة سمرة البشرة ونفس درجة اصفرار الشعر نتيجة احتراقه تحت أشعة الشمس وحتى نفس الطول. أول ما ميزته أنا هو نفس مستوى الطاقة والتنافس بينهم. لاحظت أن الأطفال هم أول من يظهرون في الشوارع في الصباح، وهم آخر من يعود للبيوت عند غروب الشمس. يتمركزون في البحر طوال النهار، فبعضهم يكرر القفز في الماء وهناك من يكون الصياد الماهر بين فريقه فيقوم بصيد السمك عن طريق كيس بلاستيكي ويقوم بتسويته بإحدى الطرق المعروفة هناك. يكون دائمًا التاجر الماهر فدائماََ ما يجد شيءً جميلاً بين الصخور والشعب المرجانية أو حتى الأحجار فيبيعه.

اقرأ أيضًا:أطفال مصر يُسددون فاتورة التلوث

الفتيات في المقدمة

الفتيات في سيناء هن الأقوى والأذكى، معظمهن يصنعن الإكسسوارات ويذهبن لبيعها وهنا تبدأ الفتيات في فهم التمكين الاقتصادي للمرأة. هؤلاء الفتيات يتعلمن التجارة والتعاملات النقدية منذ صغرهن فيكبرن بهذه الشخصية المستقلة التي اعتادت كسب المال. من بين هؤلاء الفتيات من لاحظت التصاقهن بالأجنبيات طوال رحلتهن، وعند اقتراب موعد مغادرة المكان، تطلب الصغيرات كل مستحضرات العناية بالبشرة والشعر من كريمات وشامبو أو واقى الشمس، تتحصل عليها من “الأجنبيات”. لم أكن أدري الغرض من الطلب العجيب ولكن منذ بضعة أشهر وجدت الفتيات يحاولن بيع بعض الكريمات المستعملة وسمعتهم يقولون إنها من “الأجنبية”.

بالرغم من عصامية الأطفال وميلهم لتحمل المسئولية إلا أنهم مشاكسون للغاية يتمتعون بالحرية، فهناك من يرد الإهانة حتى وإن كانت لمن هو أكبر منه وهناك من يقرر مشاكسة كل من يراه. هؤلاء الكبار عندما يشعرون بالإهانة يتجهون لأهل الأطفال ولكن كل ما يعبر به الأهالي هو الأسف:” لو شوفته تاني اضربه عشان احنا مش عارفين نسيطر عليه”. كل ما رأيته أنا هو الانطلاق والحرية فطبيعة الحياة هنا العفوية والبرية كلاهما فلا حرج إن كان الطفل يعيش سنه بشكل ما.

قمت بالتدريس لبعض الأطفال عند استقراري في دهب في أول عهدي هنا. حسنًا، وقتها عرفت لماذا لا يفضل أطفال البدو بشكل خاص التعليم وأغلبهم قد يتسرب منه، فالنظام التعليمي بشكله الحالي مجحف. تخيل هؤلاء الأطفال المنطلقون الذين يقضون معظم أوقاتهم بين الشواطىء والوديان ولم يتعودوا على التركيز في شيء ما لفترة، مضطرين لمواجهة كتب “عقيمة” بمواضيع عقيمة لبضعة ساعات، تخيلت؟ تشعر بالاختناق؟ أنا شعرت به وقت تدريسهم. هؤلاء الأطفال يحتاجون لدمجهم في نظام تعليم يأخذ في اعتباره المنهج الجسدي في التعليم فهم يوظفون أجسادهم بشكل رائع ولكن قدراتهم العقلية تم توظيفها بشكل معين يناسب بيئتهم وهو ما يختلف عن الذين نشأوا في المدن. وقتها أيضًا لاحظت أن معظم من يقوم باستكمال التعليم والالتحاق بالجامعات هن الفتيات وهنا قالت لي صديقتي البدوية ” البنات لقوا مساحتهم في الدراسة والتعليم عشان مجتمعنا مش بيديهم كل الحرية”. لعل دليلي على ذلك تنظيمي أنا وشيلا (مديرتي في المطعم منذ ٢٠١٨ حتى ٢٠٢٠) حملات تنظيف الشواطئ مع الأطفال البدو. كنا نختار كل أسبوع ٨ أطفال مكلفين بتنظيف جزء كبير من الشواطىء تحت إشرافنا ولتشجيعهم على الاستمرار كنا نكافىء كل واحد منهم ب٢٥ جنيه. كان ذلك يوم الخميس من كل اسبوع وكان هدفنا تعليمهم الحفاظ على البيئة وقد نجحنا بالفعل وأصبحوا فيما بعد حريصين على نظافة الشواطئ، بل كانوا وقتها ملتزمين في موعدهم الأسبوعي بالحضور.

الاعتماد على القوة العضلية

على غرار ذلك، نجحت بروك في تحويل هؤلاء المشاكسين الصغار إلى نشطاء صغار. بروك ناشطة أمريكية في النباتية وحقوق الحيوان تعيش في دهب منذ ما يقرب من ٣ أعوام وتعمل مدرسة لغة إنجليزية للأطفال وقد أسست موقع إلكتروني بمثابة مركز تعليمي على الإنترنت في محاولة لها في الاستقلال عن النظام السائد في التدريس. أصبحت دهب تواجه مؤخرًا مشكلة السيارات المسرعة التي تدهس شخصًا تارة وطفلاََ تارة أخرى والكثير من الماعز والقطط والكلاب، وقد حدث أن دهس عدد من السيارات قطط أمامي أنا وزوجي بضع مرات وقمنا بدفن الجثث. في هذه الأيام قامت بروك بالاشتراك مع أطفال دهب من جيرانها على توعية سائقي السيارات بتهدئة السرعة عن طريق لافتات إرشادية وقد استجاب السائقون بالفعل. هذا مثال آخر لمنهج التعليم الجسدي الذي أثبت كفاءة مع أطفال سيناء.

هؤلاء المشاكسون الصغار يتغيرون، فعندما تبدأ مرحلة البلوغ يشعرون بالمسئولية فيبدأ سلوكهم في التغير. ترى الطفل يسلك سلوك الشاب النبيل ويتحلى بالهدوء. أحيانًا أراهم يحاولون العمل فقد يبيعون بعض المنتجات أو يحاولون تولى مهام صغيرة في بعض المقاهي والمخيمات. الفتيات يشعرن بملامح الأنوثة فيبدأن في تجنب الفتيان وتغطية شعورهن وهناك من يلتزمن بالدراسة وهناك من يلتزمن بالتجارة.

قابلت بضع فتيات بدويات قررن العمل بالتجارة حتى قارب عمرهن على الأربعين عامًا دون زواج، يعتقدن أنهن يعيشن حياة هادئة مكللة بنجاح مسعاهن. ينظرن للزواج على أنه تكبيل لحريتهن. حياة أطفال البدو لا أراها تختلف عن باقي الأطفال في سيناء القادمين من الداخل المصري أو الأوروبيين. فطبيعة الحياة في سيناء ملأتهم بانطلاق البرية. ولعلى قابلت أطفال أوروبيين كانوا أكثر تعقيداً من أطفال البدو. في النهاية لا أرى سوى كرم الحياة وحظها مع هؤلاء الأطفال حيث ولدوا وعاشوا في مكان ساعدهم على كامل الانطلاق حتى تكونت شخصياتهم تكوين سليم فيما بعد. اللعنة حقاََ على المدينة وقيودها التي جعلت عائلاتنا يربوننا على الالتزام والقيود ونحن كنا فقط أطفال.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة