أين كنا وأين نحن الآن؟
في عام 1998 صدر أوبريت “الحلم العربي” وهو أول أوبريت غنائي عربي، شارك فيه أشهر المطربين العرب آنذاك، واشتهر عقب الانتفاضة الثانية في 28 سبتمبر عام 2000 عند اقتحام أرييل شارون وزير الدفاع الإسرائيلي لساحة المسجد الأقصى وقتئذ، حيث كان يذاع الأوبريت على القنوات العربية الفضائية حوالي عشر مرات في اليوم الواحد. ثم بعد ذلك بسنوات، أنتج أحمد العريان الجزء الثاني منه بعنوان “الضمير العربي” في عام 2008، شارك فيه أيضًا أشهر المطربين والفنانين العرب، حيث لم يكن هناك هذه السطوة الإسرائيلية الأمريكية على الوطن العربي والعالم.
لم يكن يواجه أي فنان عربي على الأقل أي مشكلة في إعلان موقفه “المعلن” بطبيعة الحال آنذاك في الأفلام والأغاني والبرامج والمسلسلات. لم يكن هناك فرد عربي واحد لا يستطيع أن يصرخ بأعلى صوته بتضامنه مع القضية الفلسطينية، أيًا كانت مهنته أو مركزه، أما الآن فنحن لا نملك من هذا الوقت سوى ذكرياته، بل نتذكره بالكاد. ما يحدث الآن من احتفاء بمجرد أن فنان عربي أو شخصية عربية عامة، تأخذ موقف معلن لتتضامن مع القضية الفلسطينية فقط، لتدين ما يحدث من مجازر جماعية بحق المرضى والأطفال والشيوخ والنساء فقط، نحن الآن في أبعد نقطة عن ما كنا عليه في الماضي، فقط منتهى أملنا أن يعلن أهلنا مواقفهم تضامنًا مع أهلنا، وصلت بنا خيبة الرجاء أن نحتفي احتفاءً واسعًا بمجرد تغيير فنان عربي صورته الشخصية على صفحته على فيسبوك بصورة علم فلسطين، دون كلمة واحدة، دون تعليق واحد، فقط استبدل صورته الشخصية بصورة العلم حتى لقى احتفاءً بالغًا عن العمل العظيم الذي قام به.
محمد صلاح وباسم يوسف نموذجًا
أثار الاثنان جدلًا واسعًا على الأرض ومواقع التواصل الاجتماعي إزاء مواقفهما من القضية الفلسطينية في الأيام القليلة الماضية، وحتى لا تكون المقارنة مجحفة سأُعرِف خلفية كلًا منهما أولًا:
محمد صلاح
عقلية محمد صلاح الثقافية والسياسية والدينية حتى، أو “المينتالتي” كما يحب أن يسميها، لا تتعدى في أفضل الأحوال عقلية شخص يميني محافظ، وتشهد على ذلك مواقفه ولقاءاته على مدار مشواره الاحترافي، بل أكثر من ذلك لو أمعنت النظر معي ستجد أن الأولوية عنده للرجل الأبيض الأوروبي وتأثره وانبهاره الواضح به، وكل هذا منطقي تمامًا ويتماشى مع ظروف انتقاله ووجوده وسرعة نجاحه.
نشأ صلاح في بيئة قروية محافظة، حيث ولد في يونيو 1992بقرية نجريج التابعة لمركز بسيون محافظة الغربية، ولم يحالفه الحظ أن يحصل على تعليم في جامعة كبيرة، بل فضل الانضمام إلى معهد اللاسلكي بسبب الظروف المالية الصعبة التي عاشها حتى لا يكون عبئًا على أهله في ذلك الوقت، ثم بعد ذلك انضم لنادي المقاولون العرب في صفوف الناشئين، وكان الحظ حليفه أخيرًا عندما اشتراه نادي بازل السويسري من “المقاولون” وبعدها انتقل إلى تشيلسي وفيورنتينا وروما وصولًا إلى ليفربول بأغلى صفقة في تاريخ النادي.
نفوذ الكيان الصهيوني وسطوته وفاعلية الضغط الشعبي
منذ بداية قصف الكيان الصهيوني للمدنيين العزل في غزة كان للمصريين نصيب الأسد كالعادة في الدعم الاقتصادي والإعلامي والمعنوي لأهل غزة برغم كل الظروف السياسية والاقتصادية التي تمر بها مصر، على الرغم من أن القيادة الإعلامية الآن هي إماراتية وسعودية إلا أننا تصدرناها جميعًا على كافة وسائل الإعلام وعلى رأسها السوشيال ميديا.
أيضًا نحن أكثر دولة متأزمة اقتصاديًا بين كل هذه الدول ومع ذلك نحن أكثر شعب قدم مساعدات اقتصادية، أيضًا لم يحدث حراك في الشارع للقضية الفلسطينية في أي دولة مثلما حدث في مصر، بالرغم من الوضع السياسي المزري وفي ظل وجود توتر عام كبير ووجود انتخابات رئاسية، إلا أن ذلك لم يمنع المصريين من النزول إلى الشارع.
لم يتوقف دعم المصريين عند هذا فقط، فقد كان هناك جانب آخر من الدعم، وهي معركة الضغط الشعبي المصري للقضية الفلسطينية في وجه نفوذ الكيان الصهيوني على قوة أحادية كبيرة مثل محمد صلاح، ظلت تلك المعركة مستمرة لأيام، حتى حمّلت صاحبها ما لا يحتمل، فقرر أن يمسك العصا من المنتصف ودفعه خوفه إلى أن يخرج عن صمته، حتى لو كان بكلام عائم، حيادي لا ينحاز إلى أي فريق كي لا يخسر.
المعركة الحقيقية التي كسبها الكيان الصهيوني هو إفراغ شخص مثل صلاح من معناه ومضمونه وهويته، من رأيه، من مشاركته الحقيقية فيما يحدث حوله، باعتباره رمزًا عربيًا مؤثرًا، والدرس الوحيد المستفاد من هذه المعركة هو “الجبن سيد الأخلاق”.
باسم يوسف
من مواليد القاهرة 1974 وتخرج من كلية الطب جامعة القاهرة تخصص جراحة القلب والصدر عام 1998، وأصبح عضوًا في الكلية الملكية للجراحين عام 2007، عمل جراح قلب في مصر لمدة 13 عامًا، قبل أن ينتقل إلى الكوميديا والسخرية السياسية.
أيضًا شارك في ثورة يناير وقام بدوره كطبيب في مساعدة الجرحى من شباب الثورة آنذاك، ليس فقط بل كان صوتًا لملايين المصريين وإعلامًا بديلًا عن إعلام السلطة وقتذاك، فقد بدأ مسيرته بفيديوهات قصيرة على يوتيوب في مارس 2011، ثم بعد ذلك وقع عقد برنامجه البرنامج في نفس العام مع قناة onTv.
واجه يوسف الكثير من الدعاوي القضائية والمنع، وتم إيقاف البرنامج بالفعل أكثر من مرة، أيضًا كانت هناك هجمات إعلامية ممنهجة عليه. في عام 2013 بدأ باسم يوسف في كتابة مقالات في جريدة الشروق تناول فيها موضوعات مختلفة عن الدين والسياسة والمجتمع والناس، كان أبرزها وأكثرها إثارة للجدل عن الإلحاد.
باسم يوسف ومحمد صلاح وجهان لعملتين مختلفتين
باسم يوسف شخص ثوري بطبيعة الوقت والظروف، أصابه ما أصابنا من الإيمان بالثورة والدفاع عنها والفرح لانتصارها وتجرع مرارة هزائمها وانكساراتها، على المستوى الشخصي حتى دفع ثمنًا باهظًا لذلك، بينما محمد صلاح لم يكن له موقف سياسي واحد أيضًا بطبيعة الوقت والظروف حيث كان وقتها مهمومًا بحلمه الشخصي في الكرة، وحيث كانت الثورة في نفس توقيت نضج ذلك الحلم، وأظن لو كان لديه تطلعات سياسية في ذلك الوقت لم يكن ليحقق ما هو عليه الآن.
نموذج باسم يوسف هو نموذج تقدمي متحرر في آراءه السياسية والاجتماعية طوال الوقت، ويشهد على هذا مواقفه المعلنة من بداية الثورة وحتى الآن، أما محمد صلاح فهو نموذج للشخص المحافظ في آراءه ومواقفه طيلة مشواره الاحترافي، أيضًا حرص أن يتعاطى مع ما يحدث حوله طوال الوقت بمنهجية عمرو دياب، حيث لا يشارك رأيه في أي أحداث سياسية أو اجتماعية مهما حدث، ولو كان من الأمر بد فيميل إلى الجانب الأكثر أمانًا وهو جانب السلطة، كتبرعه مثلا لصندوق تحيا مصر.
باسم شخص قادر على المخاطرة والتكيف والتأقلم والبدء من جديد، وقد ضرب لنا مثالًا مبهرًا في ذلك، رغم أنه ترك مصر مكرهًا بعكس صلاح تمامًا، إلا أنه استطاع أن يجد لنفسه مكانا في بلد آخر ولغة أخرى وثقافة أخرى، بينما محمد صلاح يمشي على القواعد كما هي، ويمشي معه الخوف جنبًا إلى جنب لا يفارقه.
بالرغم مما أحرزه باسم في أمريكا بعد خمس سنوات من العمل الشاق، الذي بالكاد بدأت تظهر نتائجه مؤخرًا، إلا أنه ذهب باختياره منحازًا إلينا وإلى القضية الفلسطينية، وهو يعرف تمام المعرفة أن موقفه من الممكن جدًا أن يكلفه تلك الحياة التي لم يفرغ من بناءها حتى، أما صلاح لديه كل الضمانات المادية والاجتماعية والوظيفية إذا تكلم منحازًا إلى القضية، إلينا، لن تكون حياته مهدده بهذا القدر ولا بنصفه.
أخيرًا، نحن كأشخاص أحيانًا نكون باسم وأحيانًا نكون صلاح. بينما القدرة على تقبل الهزائم الشخصية من أجل إعلان موقف من قضية ما، لها ضريبة كبيرة لا يقدر الكثير على دفعها، لكنها من شيم البعض، ولابد أن تأتي باختيار حر. هنا يظهر التضاد الذي يجعلنا نحب أن نكون باسم، وإدراك حيثيات ظروف الحياة التي تجعلنا لا نحب أن نكون محمد صلاح، حتى إن أُجبرنا عليها في سياقات كثيرة أخرى بطبيعة الأمور والمواقف والأشياء، ولكن الفرق هذه المرة، أننا هنا في مصر وهو أحد مشاهير العالم، وبالفعل هو أهم كروي مصري في أوروبا الآن، وقد يكون أهم كروي عربي في العالم، فقط كنا نأمل أن يكون صوتنا.. أن ينحاز إلينا.
https://www.youtube.com/watch?v=1ShAdvI4