يمكن دومًا قتل الأشخاص معنويًا أو حتى ماديًا، ولكن لا يمكن قتل الشعوب. وعندما يأخذ شعب زمام المبادرة ويصبح هو صاحب الفعل وليس فقط رد الفعل يستطيع إحداث التغيير مهما كانت المعوقات. وما نشهده ليس مجرد عمل بطولي فردي يمكن احتواؤه بالتلاعب والتخويف والعنف، بل حركة مجتمع يرفض أن يعيش على الهامش دون أن يكون له حق تقرير مصيره واختيار مستقبله.
سنوات وسنوات من التجارب والمحاولات التي باء بعضها بالفشل وحقق بعضها الآخر نجاحات بدرجات مختلفة لا يمكن أن تمر على الوعي الجمعي دون أن تترك فيه أثر واضح من تطور ونضج وتمسك بالحق والعدل. ظهر ذلك جلياً في حجم التأييد والدعم الذي حصلت عليه القضية في أوساط ظن الجميع أنها صمتت للأبد نتيجة الخوف أو الغسل الممنهج للعقول. لا نعلم حتى الآن نهاية هذه المعركة، فربما تنتهي بانتصار الشعب على من حاصروه وحرموه أبسط حقوقه واحتياجاته وربما تنتهي بانتصار مؤقت للإرهاب المنظم الذي يواجهه بكل شراسة واحتقار لحقه في الحياة والمستقبل، ولكن الأكيد أن الوضع ما بعد هذه المعركة لن يكون كسابقه.
وربما كان من أفضل المكاسب التي تحققت هو فضح مؤسسات كبرى لطالما اختبأت خلف مظاهر الحياد والموضوعية واحترام حق الإنسان في الحياة، فهذا نجم كان محل تقدير وحب من الغالبية العظمى من الشباب يتحول فجأة لشخص مكروه بسبب موقفه المعادي لحق الناس في الخروج من أغلال الذل والاستعباد، وها هي قناة اتصال كان يضرب بدورها المثل في فتح أبواب الحرية والتواصل للجميع تحاول جاهدة قمع صوت الناس الغاضب من التعبير عن نفسه لتفقد مصداقيتها ومكانتها. وهذه مؤسسات كانت تعتبر خارج دائرة الصراع تجد نفسها فجأة طرف فيه بعد أن رأى الناس انحيازها للظلم والعدوان على حقوق الناس دون أن تكون مضطرة لذلك أصلا ولكنه الفساد الذي استشرى في كل شيء.
ولكن هذه "المكاسب السلبية" ليست كل شيء. فما أظهرته هذه المعركة من إصرار الكثير من الناس على الحصول على حقهم في الاختيار والانحياز للحق والإنسانية رغم كل ما يتعرضون له من تعنت وتهديد لا يمكن تجاوزه كأنه أمر اعتيادي بأي حال من الأحوال بل هو عنوان لعالم آخر أكثر إنسانية ورحمة يولد من رحم القهر والحصار الناعم والخشن للعقل والفعل الجمعي. فكما كان هناك أشخاص يدفعون ثمن دفاعهم عن حقهم المشروع في المقاومة من قلب المعركة بوصفهم أصحاب المصلحة الأولى من التخلص من قيود القهر والتهديد كان هناك غيرهم يبذلون وقتهم وجهدهم لمناصرتهم والدفاع عن حقهم رغم ما يتعرضون له هم أيضًا من قهر وتهديد بشكل مختلف. مما يعني أن نصر الحق ليس مقصورا على أصحابه أو الضحايا المباشرين لغيابه بل تتسع رقعته لتشمل المنصفين والعقلاء وأصحاب الضمير في كل مكان.
والدروس مستمرة، فكلما ازداد تمسك الناس بحقهم في وطنهم كلما ازدادت المحاولات المحمومة لإخراسهم وإخفاء الأدلة على شرعية مطالباتهم وكلما اتسعت – في نفس الوقت – مساحة الوعي والغضب المناصرة لهم. وكلما حاول أعداء الإنسانية إخفاء الحقيقة وتشويهها ظهرت أكثر جلاءً ورهبة أمام من عاشوا في غفلة معتقدين بأن كل شيء سوف يستمر على ما هو عليه وأن الحقوق قد ضاعت للأبد ليفاجئوا بأن الحق لا يموت ولا يضيع طالما ظل وراؤه من يطالب به ويجتهد من أجل إعلاء كلمته. صحيح أن الأثمان المدفوعة غالية وربما تتمكن القوة الغاشمة من إنهاء الجولة لصالحها على الأرض ولكن تضامن الناس ضد الظلم يظل القيمة الأساسية التي يجب أن نشجعها بل وننخرط فيها لصالح عالم أكثر عدلًا وإنسانية.
خلاصة القول إن الأمل قد عاد وأن القضية الفلسطينية ستظل المحك الحقيقي للضمير الإنساني مهما ظن أعداؤها أنهم قد دفنوها تحت ركام الصواريخ وأسكتوها تحت أصوات صراخ الأطفال وذويهم.