يقول الفيلسوف الفرنسي ميشيل فوكو (1926 - 1984) في كتابه "المراقبة والمعاقبة" إن إخضاع الأجسام من خلال السيطرة على العقول والأفكار أكثر كفاءة بكثير من إخضاع الأجساد للعقاب. حينها تصبح القواعد القانونية إحدى أدوات السلطة الأكثر فعالية في تعريف الجرائم وتثبيت سلم العقوبات وتحديد المكلفين من الهرم البيروقراطي بتنفيذ العقوبات.
نجد هذا في كل مناحي الحياة بالدول النامية، حتى في الجامعة التي تتحول إلى أداة للسلطة.
تحت هذا العنوان؛ "الجامعة كأداة للسلطة"، أصدرت مؤسسة "حرية الفكر والتعبير - أفتي" تقريرًا، رصدت فيه ما يعانيه الأكاديميون من انتهاكات تتعلق بمراقبة الجامعات لأنشطتهم خارج الجامعة، بما يشمل سنوات من مراقبة الحياة الخاصة لأعضاء هيئة التدريس والطلاب في آن واحد، فإضافة إلى التضييق على الحياة الأكاديمية من خلال تقييد الحرية الأكاديمية والتدخل في البحث العلمي وتقييد المساحات المتاحة للأساتذة في تحديد المواد العلمية التي سوف يتناولها الطلاب، اتجهت الجامعة إلى مزيد من التضييق والتحكم في سلوك ونشاط الأساتذة، من خلال حظر بعض الجامعات مشاركة الأساتذة في الشأن العام، بما يتضمن الظهور الإعلامي وكتابة المقالات والتصريحات الصحفية والتصريحات على منصات التواصل.
اقرأ أيضًا: بين السجن والملاحقة.. "الفكر والتعبير" ترصد انتهاكات بحق أسر المعارضين
يستشهد التقرير بإصدار إدارة جامعة كفر الشيخ، في سبتمبر 2015، قرارًا بحظر الظهور الإعلامي وإصدار أو نشر أية مقالات أو تصريحات صحفية، إلا بإذن مسبق من رئيس الجامعة أو موافقة كتابية من الجهات المختصة بالجامعة. وتبعتها في ذلك جامعة قناة السويس في نوفمبر 2015.
ويأتي هذا بينما تخضع الجامعة الحياة الخاصة للطلبة للرقابة أيضًا، وهو أمر يصل حد الإحالة إلى التحقيق على مرجعية تعبير الطلاب والأستاذة عن آراء دينية عبر صفحاتهم على مواقع التواصل. تعرض طالب للفصل في مثل هذه الوقائع، وعوقب آخرون على مشاجرات بين الطلاب خارج نطاق الجامعة، كما فُصلت أستاذة في جامعة السويس بسبب فيديو ترفيهي أظهرها ترقص في مناسبة؛ بحجة أنها تخالف قيم الجامعة.
يرصد التقرير أيضًا ما تمارسه الجامعة من إعاقة ترقيات بعض الأساتذة ومنع حصولهم على درجاتهم العلمية بسبب النشاط السياسي لذويهم.
أحد أبرز الحالات التي رصدها التقرير وركز عليها تحت عنوان "انتهاكات على خلفية انتقاد سياسة الدولة"، كانت حالة الدكتور أيمن منصور ندا أستاذ الرأي العام والاتصال السياسي والرئيس السابق لقسم الإذاعة والتلفزيون بكلية الإعلام في جامعة القاهرة، الذي تعرض لانتهاكات إدارية وقضائية وأمنية عنيفة على خلفية تعبيره عن رأيه في وضع الإعلام المصري والإعلاميين المتصدرين المشهد الإعلامي عبر صفحته الشخصية على "فيسبوك".
العقاب على الرأي
في 29 مارس 2021، أوقفت جامعة القاهرة "ندا" عن العمل لمدة 3 أشهر، جددتها لأكثر من 18 شهرًا، لم تتوقف عندها، بل زادتها إلى حذف اسمه من كل كشوف الكلية، سواء في مجلس الكلية أو في مجلس القسم، ومن كل الرسائل الجامعية التي أشرف عليها.
كما أحالت الجامعة أستاذها إلى التأديب في سبتمبر 2021 في الدعاوى أرقام: 14، 15، 17، 18، 19، 20، 21 لسنة 2021، بسبب ما نشره من مقالات تنتقد فساد إدارة الجامعة، مدللًا عليه بالمستندات والوثائق.
دفعت تلك الانتهاكات "ندا" إلى تقديم استقالته كأستاذ في جامعة القاهرة في 9 يونيو 2022 اعتراضًا على سوء إدارة الجامعة وفسادها وما تعرض له من انتهاكات.
اقرأ أيضًا: «حرية الفكر والتعبير» ترصد في تقريرها السنوي انتهاكات حرية التعبير خلال 2022
لم يكن "ندا الحالة الوحيدة، إذ يلفت التقريرإلى تنوع الانتهاكات بحق الأساتذة الجامعيين، ومنهم الدكتورة منار طنطاوي الأستاذ المساعد بقسم الهندسة الميكانيكية، التي قرر مجلس تأديب أعضاء هيئة التدريس بالمعهد التكنولوجي العالي بالعاشر من رمضان، في 27 يوليو 2022 ، معاقبتها بخصم 15 يومًا من راتبها، استنادًا إلى الدعوى التأديبية المقامة ضدها برقم 18 لسنة 2021، وتضمنت اتهامات لطنطاوي بـ"الإساءة إلى المعهد وعميده عبر مواقع التواصل الاجتماعي وبعض القنوات الفضائية المعادية للوطن"، وفق نص الاتهامات، بعد أن رفض عميد المعهد السماح لـ"طنطاوي" بالعودة إلى منصبها الرسمي كرئيس لقسم الهندسة الميكانيكية، بالإضافة إلى منعها من الحصول على درجة الأستاذية، بالرغم من استيفائها الشروط الفنية والقانونية لذلك.
رصد التقرير أيضًا واقعة يوم 12 سبتمبر 2022، حينما أيدت المحكمة الإدارية العليا حكم محكمة القضاء الإداري بعزل الدكتورة منى البرنس رضوان، من وظيفتها في الجامعة، مع الاحتفاظ بالمعاش أو المكافأة.
وذكرت المحكمة في حيثيات الحكم أن الحكم صدر على مرجعية تهمتين؛ الأولى: نشر الدكتورة منى عدة فيديوهات تظهرها ترقص عبر صفحتها الشخصية على "فيسبوك"، مع إصرارها على تكرار نشر مقاطع جديدة، بما يحط من هيبة أستاذ الجامعة ورسالته ومسؤوليته عن نشر القيم. بينما جاءت التهمة الثانية تحملها الخروج على التوصيف العلمي للمقررات الدراسية ونشر الأفكار الهدامة التي تخالف العقائد السماوية، من خلال الطعن في ثوابت الدين في المحاضرات بالقول: "إن إبليس تعرض للظلم أو أنه عبَّر بحرية عن أفكاره ورغباته".
انتهاكات تطال الطلبة
يشير التقرير كذلك إلى نصيب الطلاب من الانتهاكات الجامعية، فيستشهد بواقعة تحويل الطالب عبد الرحمن عبد التواب، في 12 أبريل 2018، إلى التحقيق في منشور عبر صفحته على "فيسبوك"، يصف فيه الجامعة بأن: "حالها كسواد العسل".
وقد قررت الجامعة فصل هذا الطالب المنتظم بالفرقة الرابعة أسبوعًا دراسيًّا كاملًا، ومنعه من الدخول إلى الحرم الجامعي، بعد أن استدعته وطلبت منه حذف المنشور وكتابة اعتذار في منشور يصف الكلية بأنها من أفضل الكليات. ولكنه رفض باعتبار أن صفحته الشخصية تقع ضمن نطاق الحرية الشخصية.
يفسر تقرير "أفتي" هذه الانتهاكات بأنها نتاج تأصيل التدخلات الأمنية في إداريات الجامعة، ومنهج المراقبة والعقاب الذي ينال من الطلاب والأساتذة الجامعيين -على حد سواء- طبقًا للسلوك الأكاديمي والشخصي.
ويدلل التقرير على ذلك بتعديل المادة 25 من قانون تنظيم الجامعات، لتنص على: "يعين رئيس الجامعة بقرار من رئيس الجمهورية بناء على عرض وزير التعليم العالي. وذلك من بين ثلاثة أساتذة ترشحهم لجنة متخصصة…"، وكذلك تعديل المادة 72 من القانون 103 لسنة 1961 بشأن قانون تنظيم الأزهر، بما يسمح لرئيس الجامعة بعزل أعضاء هيئة التدريس وفصل الطلاب من الجامعة بادعاءات تتعلق بالاشتراك في مظاهرات أو أعمال تخريبية، إضافة إلى اشتراط موافقة أمنية قبل سفر أعضاء هيئات التدريس إلى الخارج بغرض الدراسة أو حضور مؤتمرات علمية في جامعات أجنبية.
وتذكر الورقة -في ختامها- بأن هذا النهج هو محاولة من الجامعات لاكتساب سلطات وأدوار تتنافى مع ما نص عليه الدستور المصري وقانون تنظيم الجامعات والمواثيق الدولية فيما يخص حرية الفكر والتعبير والحقوق الأكاديمية والطلابية.