عزيزي القارئ، إن كنت ممن يرفضون المقاومة ويروجون للاستسلام أمام كل متكبر مغرور بقوته فأرجوك ألا تكمل القراءة. فبالرغم من كوني ممن ينظرون دوما للقضية الفلسطينية على أنها سبب لاستنزاف طاقات مصرية مقاومة كان يمكن أن تستغل في مقاومة الاستبداد الداخلي وبالرغم من كوني ممن يتوجسون دومًا من استخدام كثير من النظم الاستبدادية الفاشلة للقضية للترويج لنفسها على أنها قوى للتحرر الوطني بالمخالفة للواقع، إلا أن عدالة القضية الفلسطينية مبدأ لا يختلف عليه أي صاحب ضمير حي.
والقضية الفلسطينية نظرًا لكل ما فيها من معاناة وآلام وتاريخ محفور بالدم، فمن الطبيعي أن تكون المناقشات حولها شديدة السخونة والتوتر، ومن الطبيعي كأي قضية وطنية حية أن تغلب العاطفة على توجيه دفة النقاشات حول تطورات أحداثها، خاصة عندما تمر السنوات المتعاقبة دون تغيير حقيقي ثم يفاجئنا التاريخ بتحول مفاجئ في مسار الصراع، حيث يقتحم الآلاف من الفلسطينيين الدفاعات الإسرائيلية بشكل عجز الموساد نفسه عن تصوره أو توقع حدوثه!
طوفان الأقصى الذي ضرب عمق إسرائيل وزلزل المجتمع الدولي المناصر لها كان نموذجًا لما أتخوف منه عادة من الجانب الدعائي، حيث سارع أكثر نجوم الاستبداد في العالم لاستغلال ما حدث لتلميع أنفسهم فنجد أن مستبد كوريا الشمالية ومستبد روسيا وغيرهما قد سارعوا بإعلان دعمهم للنضال الفلسطيني بينما هم في الواقع كانوا يستغلون الحدث لصالح تدعيم صورة وهمية تختبئ خلفها بعض من شرعيتهم كـ"مناضلين ضد الامبريالية" لتظلل فسادهم وجرائمهم ضد شعوبهم.
في نفس الوقت كان انشغال الرأي العام المصري – على الأقل رأى النخب المتواجدة على وسائل التواصل الاجتماعي -بدعم بطولات الفلسطينيين والانخراط في أنشطة الرد على منتقديهم ومتابعة التطورات في أرض فلسطين المحتلة يبدو خصما من حالة الحراك الذي خلقته الانتخابات الرئاسية القادمة والتي سيطرت على مناقشات قسم كبير من المهتمين بالشأن العام في مصر. حتى أن أعضاء حملة أحد المرشحين المحتملين اشتكوا من تراجع اسم المرشح الذي يدعمونه من مساحة الاهتمام العام بعد أن تصدرها لفترة لا بأس بها.
ولكن – ولأن الأمور لا يمكن النظر لها من زاوية واحدة – كان ذلك الطوفان في نفس الوقت فاتحة خير على كل من يؤمن بقوة الشعب وأحقيته في تقرير مصيره، فالمعركة العسكرية التي اشتعلت بغتة وأدت إلى أرقام غير مسبوقة في خسائر الجانب الإسرائيلي المتغطرس في أول أيامها ربما بالفعل خطفت الأنظار عن المعركة السياسية الداخلية المتمثلة في الانتخابات الرئاسية المصرية، إلا أنها أطلقت طوفان من الأمل في قلوب كل من رأى في ذلك الهجوم تمرد ناجح من المقهورين على قاهريهم.
لعقود تم تغذيتنا بثقافة الاستسلام الفخم والهزيمة المشرفة، لعقود ظل الانسحاب أمام المنافس الإسرائيلي في ساحة الرياضة أشرف من مواجهته ومحاولة الفوز عليه أو حتى تقبل الهزيمة بروح رياضية، ولعقود أيضًا ظل العزوف عن الاشتباك السياسي أكثر وجاهة من قلة القيمة الناتجة من بهدلة التعامل مع واقع سياسي مزري بدون قواعد أو محددات أو أي درجة من درجات النزاهة أو الشفافية أو شرف الخصومة.
ولكنني أزعم أن طموح بهذا الحجم غير المسبوق في معركة تحرير فلسطين لا يقل أمامه طموح الطليعة المصرية في الوصول للتغيير بطريق سياسي قانوني آمن، بل إن هذا التحدي والإصرار الذي يمكننا أن نصف به تخطيط تلك العملية وتنفيذها يلهم الشباب المصري ويحفزه على التمسك بالأمل في المستقبل وخوض المعارك الصعبة غير المأمونة للنهاية وحشد كل الإمكانيات والأدوات –على ضعفها - لتحقيق النصر.
وبالطبع -ولأن الأمور لازالت لا يمكن النظر لها من زاوية واحدة – فلا يمكن إغفال الثمن الذي يجب على الإنسان والمجتمع دفعه إذا أرادوا فعلًا الخروج من مرحلة لمرحلة أخرى، فلا يمكن لعاقل صاحب قلب سوي أن يفرح بمشاهد الدمار والقتل التي تحرص الآلة الإجرامية الإسرائيلية على التمادي فيها بكل قوتها لمحاولة كسر الحالة التي أدت إلى التمرد الفلسطيني ضدها، كما لا يمكن لوطني محب لوطنه أن يفرح بأنباء اعتقال الشباب المتحمس الراغب في إصلاح بلاده بالدستور والقانون أو يسعد بالمشاهد المؤسفة التي تصدمنا جميعًا من محاولة بعض الفئات النافذة فرض إرادتها على الناس بدون وازع من ضمير أو سند من حق.
لا بد للموقف المشرف من ثمن، ويزداد الثمن المطلوب كلما ارتفع طموح صاحب الموقف في أن ينال المزيد من الشرف. نعزي أهالينا في فلسطين ونساند مطالب أهالينا في مصر ونتمنى من الله أن ينصر المظلوم بأيدي أخوته المظلومين وأن يرحل الاحتلال الصهيوني يوما عن فلسطين وأن تشفى مصر مما لحق بها من فقر وجهل ومرض.