يجري التمهيد منذ شهور، بشكل مباشر وغير مباشر، من أجل الوصول إلى مقايضة سياسية عنوانها القبول ببقاء السيسي لفترة رئاسية جديدة، مع التزام السلطة السياسية باستمرار العمل على فتح المجال العام وإحداث انفراجة سياسية
ويمكن القول إن الحوار الوطني كان أحد الخطوات في مسار التهدئة الذي تبنته القيادة السياسية، والذي كان من المفترض أن يقود إلى ملامح وأطر وأطراف التفاوض حول إعادة هندسة مجال عام منفتح، يسمح بالتعددية والتنوع والاختلاف وقبول الرأي الآخر. ولا يفترض هذا المسار إلى أي نحو مشاركة التيار المدني في السلطة.
ألا وإن إرادة السلطة المترددة أصلًا في خلق انفتاح حقيقي اصطدمت بواقع خوفها الشديد من تبعات فتح المجال العام، وبوجه خاص المجال السياسي. خصوصًا مع تزايد الاحتقان الشعبي بسبب تدهور الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ما اضطرها في نهاية الأمر إلى تفخيخ مشهد الحوار الوطني، وإفشال التفاوض المزمع.
السيسي عنوان الأزمة
يمكن القول إن مصر بلغت معدلات غير مسبوقة في تاريخنا الحديث من التدهور الاقتصادي والتفسخ الاجتماعي والانغلاق السياسي وضعف وتراجع الدور الإقليمي والدولي. ويتوقع الكثيرون أن يكون عام 2024 الأكثر سوءً على مستوى معدلات الفقر وتدهور قيمة العملة، فضلًا عن تراكمات فاتورة الدين الخارجي.
وبالتالي تكون فرص الإصلاح وتصحيح المسار، أو حتى إيجاد حلول وإجراءات عاجلة لحماية عموم المصريين من تبعات الأزمة الاقتصادية، غير ممكنة تقريبًا مع استمرار نفس الإدارة السياسية الحالية. خصوصا مع تشككات الحلفاء الإقليميين والدوليين المتزايدة حول قدرة إدارة السيسي في تجاوز أزماتها الهيكلية.
وبالتالي أصبح الرئيس نفسه هو عنوان الأزمة، حتى وإن تمكن من العبور إلى دورة رئاسية جديدة، لأن السؤال الأهم سوف يظل بلا إجابة، كيف يمكن أن يحدث انتقال سلمي وآمن للسلطة في مصر؟!…
مشاريع مختلفة للمعارضة حول سيناريو انتقال السلطة
الحقيقة أن المعارضة المصرية لديها أكثر من مشروع للإجابة على سؤال انتقال السلطة في مصر، فبينما يمثل أحمد الطنطاوي سيناريو البديل المباشر، الذي يرى الحل في إزاحة سلطة السيسي عبر الصناديق الآن وفورًا، لتصبح سلطة سابقة، دون أي سيناريو واضح حول كيفية إدارة عملية الانتقال الآمن للسلطة ومقاليدها، يمثل الطنطاوي البديل الشعبوي، المدعوم من قبل قطاعات جماهيرية، والذي يبدو في عيون جمهور المواطنين باعتباره المرشح الوحيد الجاد، بصرف النظر عن أية تحفظات على خطابه المحافظ والديماجوجي والرجعي في أحيان كثيرة.
إلا أنه لا يمكن النظر إلى الطنطاوي بمعزل عن التيار القومي بشكل عام، ودوره في المشهد السياسي في هذه المرحلة. ففي الوقت الذي يلعب فيه الطنطاوي هذا الدور، يناور ما يمكن تسميته جناح الحكماء في هذا التيار بالزخم والحراك الذي أنتجته "حالة طنطاوي" من أجل انتزاع مساحات أوسع في الهامش السياسي ودور التيار القومي في القلب منه. وهو الجناح الذي يدير عملية التفاوض على الجانب الآخر مع السلطة.
فيما يطرح فريد زهران والحزب المصري الديمقراطي الاجتماعي إجابة أخرى حول سؤال انتقال السلطة في مصر، إجابة ترى عملية انتقال السلطة بشكل نخبوي لا تحتاج أكثر من مجال سياسي ضيق، لا مانع أن يكون مهندس أمنيًا، يمكن لنخبة الخارج والداخل أن ترى فيه مساحة آمنة لانتقال السلطة وفق استراتيجية تحرير الخانات.
إلا أن معضلة تلك الإجابة تكمن في استبعادها للجمهور بشكل كامل تقريبا من معادلة التغيير في البلد. ولا ترى في انتخابات الرئاسة فرصة لاستعادة الجماهير كفاعل رئيسي في معادلة التغيير.
إجابة أخرى، وسيناريو ثالث يطرحه بعض أطراف اليمين الليبرالي، سيناريو لا يستبعد فقط الناس من معادلة التغيير ولكنه يهمش كذلك دور النخبة السياسية المعارضة. إذ يرى انتقال السلطة عملية يجب أن يجري إتمامها في المراحل الأولى منها داخل أروقة السلطة الضيقة. وقد عبر ذلك الطرح عن نفسه بوضوح من خلال استدعاء شخصيات ذات خلفية عسكرية، تحظى بقبول داخل النخبة العسكرية ولدى الحلفاء الإقليميين والدوليين، باعتباره جسر الانتقال الآمن للسلطة.
باختصار إعادة إنتاج مرحلة انتقالية يمكن خلالها فض الاشتباك بين ما هو مدني وما هو عسكري، ويعمل على تخارج المؤسسة العسكرية من الأنشطة المدنية، وتمهيد الطريق للانتقال إلى سلطة مدنية.
وفي كل الأحوال؛ يفرض الواقع السيناريو الخاص به، سيناريو تفاعلي تحدد ملامحه خريطة التفاعلات الاجتماعية التي يحركها معدلات غير مسبوقة من الاحتقان الشعبي والضغوط الاقتصادية. وهو ما يؤكد أن استبعاد الجمهور من معادلة السياسة أصبح غير ممكن، خصوصًا إذا ما تأملنا مشاهد مثل عمومية الصحفيين ومن بعدها عمومية المهندسين وما كان لكل منها من دلالات تشير عن سلوك جمهور المهنيين الذي عبر عن رفضه للسلطة السياسية وسياساتها القائمة من خلال رفض ذيولها وممثليها داخل الرواتب النقابية. وأخيرًا مشاهد استدعاء جمهور المواطنين من مدخل التوكيلات الشعبية لتأييد مرشحي الرئاسة.
إلا أن التشرذم والشتات الذي يصيب تيار المعارضة المدني في مصر بفعل التجريف السياسي طوال العقد الماضي، أنتج حالة سائلة وغير متماسكة لمكونات التيار المدني الديمقراطي ما أفقده مرونة الفعل السياسي والتنسيق الجاد الذي بإمكانه أن يقودها لأن يكون استمرار السيسي فعلًا لن يمر دون انفراجة حقيقية وجادة للمجال العام وكافة نوافذ التعبير والتنظيم بداخله، حتى يمكن الحديث عن انتقال سلمى وآمن للسلطة في مصر