يشير تحليل الخطاب الخاص بأزمة التعليم في مصر إلى وجود تشخيص جيد وعميق للمشكلة بجوانبها المختلفة، يقابله فقر شديد في التصورات التي تساعدنا على تقديم حلول تساعدنا على الخروج من الأزمة. فأزمة التعليم في مصر، مثلها مثل مشكلات كثيرة نعاني منها، ونجيد تمامًا تشخيصها لكننا نعجز عن وضع حلول عملية لها.
قد يتعلق الأمر بطبيعة المشكلة أو بمدى تعقدها نتيجة لتراكم العوامل التي أدت إلى أن تحول هذه المشكلة إلى مشكلة مزمنة أو حتى "أزمة"، ويعني مصطلح "الأزمة" حدوث خلل مفاجئ نتيجة لأوضاع غير مستقرة، يترتب عليها تطورات غير متوقعة، نتيجة عدم قدرة الأطراف المعنية على احتوائها، وغالبًا ما تكون بفعل الإنسان، أو نتيجة للمشكلات التي ترتبت على محاولات إيجاد حلول جزئية ولدت بدورها مشكلات إضافية. غير أن الأزمة تعني نقطة تحول في مسار مشكلة ما، إما إلى الأسوأ أو الأحسن، فهل وصلت مشكلة التعليم في مصر إلى نقطة التحول هذه؟ وهل هناك فرصة لأن تتخذ مسارًا نحو وضع نتمكن فيه من التعامل مع المشكلة وإيجاد حلول تحدث فارقًا نوعيًا في حالة التعليم والتعلم؟
من المؤكد أن ملف التعليم إلى جانب ملف الصحة من أهم الملفات الأولى بالرعاية لأي مجتمع، فهما من الملفات التي تؤثر في العديد من الملفات الأخرى والتي تتأثر أيضًا بها، ونتيجة لذلك فإننا عند تناول مشكلة التعليم فإننا ندور على ما يبدو في حلقة مفرغة لا نستطيع كسرها. فعلى الرغم من إدراك القائمين على وضع السياسات التعليمية في مصر أن المشكلة معقدة ومتعددة الأبعاد، إلا أن السياسات العامة المقترحة لا تقدم حلولًا تتعامل مع هذه الأبعاد المتعددة.
يُزيد من تعقد أزمة التعليم ما أشارت إليه الدكتورة يوهانسن عيد، رئيسة مجلس إدارة الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد السابقة، بخصوص تأثير الثورة العلمية الخامسة التي يشهدها العالم اليوم، والذي يتمثل في عدم القدرة على استكشاف الآثار المترتبة على التحول الكبير الذي يشهده العالم في انتقاله من البيانات الضخمة إلى البيانات العميقة إلى تعلم الآلة، فالذكاء الاصطناعي والعقل العميق. إن التطورات السريعة والمتلاحقة التي يشهدها العالم الآن من شأنها أن تحدث ثورات في طرائق التفكير وأساليب الحياة لمواكبة هذا التغير السريع والتفاعل معه. وهذه نقطة جديرة بالاهتمام نظرًا لأنها تضع مشكلة التعليم في مصر في السياق العام لمشكلة التعليم في السياق العالمي.
التعليم في عصر الذكاء الاصطناعي
وقالت الدكتورة يوهانسن التي كانت تتحدث في ندوة نظمها مركز حلول للسياسات البديلة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة يوم الأحد 24 سبتمبر الجاري، إننا لا نستطيع معرفة كيف ستتطور الأمور خلال الأيام القليلة القادمة، فإيقاع التغير الذي تفرضه الثورة العلمية الخامسة أسرع من قدرتنا على مواكبته لمحدوديتها أمام قدرة الألة، التي فتحت آفاق أوسع لاكتساب المعرفة والتفاعل بين البشر، ولهذه التطورات تأثيرات بعيدة المدى على أطراف العملية التعليمية وبيئتها وأشكال التفاعل فيما بينهم.
أشار تقرير رصد التعليم لعام 2023، الذي تصدره منظمة الأمم المتحدة للعلم والثقافة (اليونسكو) والذي صدر بعنوان "التكنولوجيا في التعليم: من يضع شروط هذه الأداة؟"، إلى ضرورة التفكير فيما يعنيه "أن تكون متعلمًا جيدًا في عالم يشكّله الذكاء الاصطناعي"، مؤكدًا أن التقنيات الجديدة تتطلب وضع منهج دراسي متوازن وتعزيز مسؤولية المتعلّمين وتعاطفهم وتوجّههم الأخلاقي وإبداعهم وتعاونهم. وشدد التقرير على أن اعتماد نُظُم التدريس الذكية لا يعني استبدال المعلمين كليًا بالذكاء الاصطناعي، بل يحمُّل المعلمين مسؤوليةً أكبر من أي وقت مضى لمساعدة المجتمعات في تجاوز هذه المرحلة الحَرِجة، مشيرًا إلى أهمية التوصل إلى إجماع بشأن الاستفادة من الذكاء الاصطناعي والقضاء على المخاطر الناجمة عن استخدامه بشكل غير منضبط، وذلك بتعزيز الأنظمة المتعلقة بالأخلاقيات والمسؤولية والسلامة.
لقد أحدثت الثورات العلمية والتكنولوجية المتلاحقة فجوات كبيرة بين مجتمعنا المصري وبين المجتمعات في الدول المتقدمة فيما تعرفه تقارير التنمية البشرية العربية بالفجوة الرقمية أو بفجوة المعرفة، هذا إضافة إلى الأثر العام الذي تحدثه هذه الثورات. ففي حين توفر التكنولوجيا الحديثة شريان حياة تعليمي لملايين الأشخاص حول العالم، لكنها تستبعد الكثيرين أيضًا ذلك أن إتاحة القدرة على الاتصال الإلكتروني ليست متساوية على الصعيد العالمي وكذلك على الصعيد الوطني. وتشير أحدث الأرقام المتاحة إلى أن نسبة الاتصال بالإنترنت تبلغ 40 في المائة فقط من مدارس الابتدائية و50 في المائة من مدارس المرحلة الأولى من التعليم الثانوي و65 في المائة من مدارس المرحلة العليا من التعليم الثانوي، مما يعني أن نسبة تتراوح بين 35 بالمائة و60 بالمائة من طلاب المراحل الثلاث محرومون من هذه القدرة. ولا نعرف ما إذا كانت التطورات اللاحقة ستساعد على جسر هذه الفجوات أم ستوسعها. وتزداد الصورة قتامة عند مقارنة وضع البلدان الغنية بالبلدان الفقيرة، فقد أدى لإغلاق المدارس خلال جائحة كـوفيد-19 إلى إخفاق 31 في المائة من الطلاب في أنحاء العالم و72 في المائة من الطلاب في البلدان الأشد فقرًا، والذين يشكلون معاً نصف مليار طالب على الأقل، في الوصول إلى الإنترنت، وافتقار الكثير من الطلاب إلى فرص لاستخدام التكنولوجيا الرقمية في المدارس، وتشير الأرقام المتاحة أيضًا إلى أن 10 في المائة فقط من الطلاب البالغين من العمر 15 عامًا يستخدمون الأجهزة الرقمية لما يزيد عن ساعة في الأسبوع في مادتي الرياضيات والعلوم.
وفي إطار الاستجابة لهذا التحدي، تحاول المنظمات الدولية والوطنية المعنية بالتعليم وضع معايير مرجعية لربط المدارس بالإنترنت حتى عام 2030، مع استمرار التركيز على الفئات الأكثر تهميشًا، وهو تحد كبير يزيد من الفجوة بين الموارد المخصصة للتعليم وبين الاحتياجات، علاوة على نقص الموارد المخصصة أصلًا، والذي أشارت إليه الأستاذة سنية الفقي، الباحثة في مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، التي أشارت في مداخلتها في ندوة "التعليم للجميع.. ضمان المجانية والجودة"، إلى الفجوة الكبيرة بين النسبة التي استهدف الدستور المصري تخصيصها للتعليم وبين المتحقق على أرض الواقع بالفعل، وهو ما أكده معلمون حضروا الندوة، وأوضحت أن الحيل المحاسبية التي تلجأ إليها الحكومة في محاولة لسد الفجوة لم تفلح. ومن الأمور الصادمة، ما أشارت إليه مديرة إحدى مدارس المتفوقين للعلوم والتكنولوجيا (STEM)، بخصوص ما تعاني منه هذه المدراس من عجز في المدرسين ومن نقص في الموارد الأمر الذي يؤثر على قدرتها على تحقيق الهدف الذي أنشئت من أجله.
ومن المتصور أن أي تخطيط للسياسة التعليمية لا يأخذ في اعتباره هذا المتغير ويركز على ما قد يكون عليه المستقبل عند وضع خطط وسياسات التعليم سيكون غير ذي جدوى وقد يزيد من فجوة المعرفة والفجوات الأخرى في مؤشرات التنمية المستدامة. ومن المؤسف أن يوجد ما يشير إلى إدراك القائمين على التعليم في مصر لهذا الأمر.
جسر فجوة الموارد
من الواضح من تحليل الخطاب بشأن أزمة التعليم في مصر أن الشاغل الرئيسي هو كيفية جسر الفجوة بين الإنفاق العام المتراجع على مقومات المنظومة التعليمية وبين المردود من العملية التعليمية. فقد أشارت ورقة سياسات صدرت في نوفمبر 2019، بعنوان "مدارس مكلفة وتعليم ضعيف"، أعدتها الدكتورة هانيا صبحي، الباحثة بمعهد ماكس بلانك في ألمانيا بمشاركة سارة طرمان، كبيرة الباحثين بمشروع حلول للسياسات البديلة إلى الفجوة بين الاحتياج إلى المدارس وبين ما يتم تنفيذه بالفعل من مشروعات بناء، فضلًا عن عدم الصيانة والنقص الحاد في عدد المدارس مما يؤدي إلى ارتفاع كثافة الطلاب داخل الفصول في المرحلة الابتدائية وهي أعلى من المتوسط في بلدان مثل الهند والصين، إذ يدرس أكثر من 75 بالمائة من التلاميذ المصريين في فصول تكتظ بأكثر من 40 تلميذًا، وأشارت تقارير إلى أن متوسط الكثافة بلغ نحو 60 تلميذًا في الفصل الواحد في المرحلة الابتدائية في العام الدراسي 2021-2022، بما ينطوي على ذلك من تأثير شديد السلبية على التعلم في المرحلة الابتدائية ذات الأهمية الخاصة، نتيجة لقصر الوقت المتاح للتعلم والحرمان من مواد أساسية في تكوين الطالب في هذه المرحلة من العمر والتسرب من التعليم وتقويض المساواة داخل النظام التعليمي مما يقوض من التزام الدولة بإتاحة التعليم المجاني في المرحلة ما قبل الجامعية، رغم تأكيد الدكتور أحمد جمال الدين موسى، أستاذ الاقتصاد ووزير التعليم الأسبق، التزام الدولة بإتاحته كحق أصيل لكل طفل. وفي ضوء الحقائق التي ترصدها التقارير المحلية والدولية، ومن بينها التقرير الصادر عن البنك الدولي في 2022 عن الإنفاق العام على التعليم في مصر، يصعب قبول المزاعم بأن التعليم ما قبل الجامعي لا يزال تعليمًا بالمجان أو أن الفرصة للتعليم متاحة للجميع على قدم المساواة، فقد أقر الوزير السابق بمشكلة التسرب من التعليم الأساسي (المرحلتين الابتدائية والإعدادية)، والذي من المتوقع أن يزداد في ظل تردي مستويات المعيشة بسبب التضخم وتراجع القدرة الشرائية لكثير من الأسر، وكذلك مشكلة تردي مستوى الخريجين، وهم المنتج الرئيسي للعملية التعليمية، وعدم ملاءمة ما حصلوه من خلال التعليم لسوق العمل واحتياجاته، وعدم تناسب متوسط نصيب الطالب من الإنفاق على التعليم ما قبل الجامعي ونصيبه من الإنفاق على التعليم الجامعي، والحقيقة التي حرص الوزير السابق على عدم التطرق إليها ومناقشتها بشكل مباشر هي مسألة مجانية التعليم في ظل انتشار ظاهرة الدروس الخصوصية أو فصول التقوية في المدارس، فضلًا عما يدفعه أولياء الأمور من مصروفات دراسية، ويظل السؤال هل لا يزال لدينا تعليم مجاني حقًا؟ سؤالًا بلا إجابة، فيما تسعى الدولة إلى التخلي عما تبقى عليها من أعباء اجتماعية بما في ذلك مسؤوليتها عن توفير التعليم الأساسي لغير القادرين.
وأشار البنك الدولي في التقرير المذكور إلى أن تراجع الإنفاق العام على التعليم في مصر يؤدي إلى نقص أعداد المعلمين والفصول الدراسية، مما يضع التعليم العام تحت ضغط كبير، إذ تعاني المدارس الحكومية من نقص في عدد المعلمين بسبب وقف التعيينات الجديدة في الوقت الذي ترتفع فيه أعداد طلاب المدارس الابتدائية باطراد. ويقدم تقرير وهو بعنوان "مراجعة الإنفاق العام في مصر لقطاعات التنمية البشرية" الدولي لمحة عامة عن الوضع الحالي في قطاع التعليم ما قبل الجامعي بمصر، ويشرح كيف وصلت الأمور إلى هذا الوضع. ويقصد بالإنفاق العام على التعليم إجمالي الإنفاق العام (الجاري والرأسمالي) على التعليم مُعبَّرًا عنه بنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي في سنة معينة، ويشمل الإنفاق الحكومي على المؤسسات التعليمية (العامة والخاصة على حدٍ سواء)، وإدارة العملية التعليمية، والتحويلات/الإعانات المالية المقدمة للكيانات الخاصة (الطلاب/الأسر وغيرهم من الكيانات الخاصة). ويُقدم التقرير تقييمًا لمدى كفاية الإنفاق العام على قطاعات التنمية البشرية التي تشمل التعليم والتعليم العالي والصحة ومدى كفاءته وعدالته، وتقليل الإنفاق غير الفعال والمهدر داخل هذه القطاعات وزيادة فعالية الإنفاق الحالي، وكيفية توزيع الموارد العامة على مختلف فئات الدخل وعلى مختلف المناطق الجغرافية لتحقيق العدالة، وكيف يمكن القيام بإصلاحات واسعة النطاق لتقليل درجة عدم المساواة في الإنفاق والنتائج.
ورغم ارتفاع الإنفاق على التعليم كمبالغ مالية في السنوات الخمس الماضية، إلا أن هذه المبالغ تظل تشكل نسبة أقل بكثير من النسبة المقررة بموجب الدستور من الناتج المحلي الإجمالي للإنفاق على التعليم، كما أنها تعاني من اختلال منهجي في توزيعها على المكونات المختلفة للمنظومة التعليمية، من حيث الإنفاق المكلف على أبنية تعليمية لا يؤدي إلى تعليم قوي، وعدم تقديم حلول جذرية لمشكلة كادر المعلم مما يعني استمرار ضعف أجورهم الأمر الذي يدفعهم إلى اللجوء إلى تقديم الخدمة للقادرين على دفع ثمنها من خلال الدروس الخصوصية، التي تعبر فعليًا عن حجم الإنفاق الأسري/المجتمعي على التعليم، وهو إنفاق مرتفع مقارنة بمتوسط ما ينفق على كل طالب في الدول الأخرى. وبينما تقدم التكنولوجيا الرقمية حلولًا إذ أنها زادت "بشكل كبير" من سُبُل الحصول على موارد التعليم والتعلّم، من خلال بنوك المعرفة والمكتبات الوطنية الأكاديمية الرقمية وبوابات المعلمين، إلا أن فاعلية هذه التكنولوجيا تقل أو تنعدم في حالة عدم وجود معلم مؤهل، وإذا لم يشارك المعلمون في العملية التربوية وتعليم التلاميذ كيفية الاستفادة من هذه التكنولوجيا واكتساب المعرفة والتعلم وإذا لم يكن هناك توزيع عادل لأجهزة الكمبيوتر على الطلاب، وإتاحة الوصول إلى خدمات الإنترنت بشكل متساوٍ. بالتأكيد، إن التطورات الجديدة تفسح المجال لأدوار جديدة يمكن أن تلعبها المبادرات المجتمعية والمبادرات الخاصة ومنظمات المجتمع المدني. وهو ما سنستعرضه في المقال القادم.