"الطيور المهاجرة".. صورة وتدوينة تجددان آلام القطاع الطبي في مصر

لم يكن "محمد.ع" -30 عامًا- مخيرًا حين قرر الهجرة إلى "لندن" بعد نحو عامين من ممارسته للطب في مصر، اضطرته ظروف مرض زوجته بثقب في الرئة، وارتفاع نفقات علاجها إلى الخروج بحثًا عن راتب مناسب يوفر إلى جانب مصاريف أسرته، ثمن الدواء.

أعادت صورة تداولتها مواقع التواصل الاجتماعي قبل عدة أيام "أزمة هجرة الأطباء" إلى الأضواء، بعد أن عنونها ناشرها بـ"دفعة 2019 كلها في بريطانيا"، وسط تعليقات بالتهنئة تُنذر بمؤشر خطير حول وضعية الأطباء في مصر.

حُذفت الصورة والتدوينة لاحقًا، لكنها لم تخف حقيقة الظاهرة الآخذة في الازدياد والتي تحولت مع الوقت إلى احتفال بالهروب من وضع يعاني منه الأطباء المصريون، فيندفعون كالطيور المهاجرة بحثًا عن بيئة أفضل وأكثر استقرارًا وتقدمًا.

يقول "محمد.ع": "لم أستطع مقاومة تدني الراتب، بعد أن أبلغني الطبيب بضرورة توفير حقنة شهرية لزوجتي تبلغ تكلفتها 30 ألف جنيهًا، وتأتي من الخارج".

ويضيف لمنصة "فكر تاني": "بمجرد إعلان أحد مستشفيات لندن عن طلب أطباء، بادرت بالتقدم، ولم يكن ثمة خيار إلا الاستقالة قبل السفر، وفوجئت بعدد كبير من زملائي يبادرون إلى السفر".

11 ألفًا في 3 سنوات

حذرت نقابة الأطباء من تنامي ظاهرة الهجرة، وتأثيرها على القطاع الطبي في مصر، بعد أن أظهرت إحصائية حديثة استقالة ما يقرب من 11500 طبيبًا خلال السنوات الثلاث الأخيرة.

لكن د.منى مينا -عضوة مجلس نقابة الأطباء السابقة- ترى أن ثمة مبالغة في هجرة دفعة 2019 عن آخرها، يأتي ذلك بالتوازي مع إقرارها أن النسبة عالية جدًا، ومتصاعدة، وتبلغ -على حد قولها- نحو 60% من الدفعات في السنوات الأخيرة.

تقول: "إن طلبة كلية الطب يبدأون دراسة المعادلات المؤهلة للهجرة أثناء الدراسة، بحيث يصبح جاهزًا تمامًا فور تخرجه، ويحصل على سنة الامتياز خارج البلاد".

معدل الأطباء في مصر 8.6% طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن (وكالات)

38% فقط لعلاج ملايين المصريين 

وحسب دراسة صادرة عن وزارة التعليم العالي بالتعاون مع وزارة الصحة المصرية عام 2019 عن مدى احتياجات مصر للأطباء البشريين والمقارنة بالمعدلات العالمية، فإن أعداد المرخص لهم بمزاولة مهنة الطب حتى آخر عام 2018 من دون الأطباء على المعاش تقدر بـ212 ألفًا و835 طبيبًا، بينما من يعمل فعليًا 82 ألف طبيب فقط بنسبة 38% من القوة الأساسية المرخص لها مزاولة مهنة الطب".

طبقًا للدراسة يكون معدل الأطباء في مصر 8.6% طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، بينما المعدل العالمي 23 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن"

وحسبما أعلنته وزارة الصحة، فإن معدل الأطباء في مصر يبلغ 8.6 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن، بما يعني أقل من طبيب لكل 500 مواطن، في حين يبلغ المعدل العالمي 23 طبيبًا لكل 10 آلاف مواطن.

يشير "محمد.ع" -الطبيب المصري المهاجر- إلى أن البحث عن راتب كبير ليس الدافع الوحيد: "بحثت بمحاذاة الراتب عن بيئة عمل مشجعة، ومستشفيات لديها إمكانات كبيرة تمكن من تنامي الخبرة، وتضمن أجواء صحية آمنة لعمل الطبيب".

ورغم أنه لم يتطرق لنقد الوضع الطبي في مصر، مكتفيًا بأسبابه الخاصة يستطرد: "الأطباء المصريون في الخارج يواجهون الغربة مضطرين، فلا أحد يريد البعد عن أهله وهو في مقتبل عمره، لكنها ظروف العمل التي لا تفي بوضعية آمنة للطبيب داخل المستشفى، إلى جانب غياب قانون المسؤولية الطبية".

ويعد كادر أجور الأطباء الأقل بين أقرانهم حول العالم، إذ يتراوح بين نحو 3200- إلى 4000 جنيهًا شهريًا، بما يعادل نحو 100 دولار أمريكيًا.

تعدد د.منى مينا -عضو مجلس نقابة الأطباء السابق- أسباب هجرة الأطباء الشباب، لافتة إلى أن الأجور على رأس القائمة، بجانب التعسف الإداري، وعدم إقرار قانون المسؤولية الطبية الذي يضمن عدالة محاسبة الطبيب لحظة وقوع خطأ طبي.

منى مينا

الأهل.. الدافع الوحيد

وحسب رؤيتها، فإن الشيء الجاذب الوحيد لإقامة الطبيب في مصر هو الأهل، لكنهم أيضًا مع عدد ساعات العمل الطويلة، وغياب الشاب عن أسرته معظم اليوم في ظل دخل متدني، يشجعون السفر.

في عام 2019 بلغت استقالات الأطباء نحو 3507 طبيبًا، وفي 2020 نحو 2968 طبيبًا، وفي 2021 بلغ معدل الاستقالات 4127 طبيبًا.

ويبلغ عدد خريجي كليات الطب سنويًا نحو 9 آلاف طبيبًا، وفق تقرير صادر عن نقابة الأطباء.

يقول "عمر.د"- طبيب مقيم في مصر- 32 عامًا-: "إن غياب الحماية القانونية للأطباء ضد مضاعفات الأمراض، والجراحات، وعدم توافر منظومة محترمة تحميهم، وتدني العائد المادي الحكومي، عوامل مؤثرة في قرارات الهجرة".

ويضيف لـ"فكر تاني": "صورة الأطباء المهاجرين، وتهنئة رواد فيس بوك لهم ليست مفاجأة، فالظروف الاقتصادية الحالية وراء هذه الطفرة في رغبات الهجرة، بعد إعلان معظم الأطباء المهاجرين عن تجاربهم أثناء السفر، ووفرة الإمكانات المادية، والمهنية سواء في دول الخليج، أو في أوروبا".

ما لا يحتاج التأجيل

ورغم سعي الحكومة المصرية لمعالجة الظاهرة، بعد أن أعلن أشرف حاتم –رئيس لجنة الصحة بمجلس النواب عن خطط قائمة يجري العمل عليها لتحسين الوضع المادي، والمعنوي للأطباء، بجانب تكثيف سياسات التأهيل، والتدريب، إلا أنها ليست كافية لوقف الهجرة سنويًا.

على صعيد الخطط، والإجراءات المزمع اتخاذها حكوميًا لمعالجة ظاهرة هجرة الأطباء تقول د.منى مينا: "هناك أشياء لا تحتاج إلى تأجيل، في مقدمتها حماية المستشفيات، ورفع الأجور، وتسهيل الدراسات العليا، وتحسين الأمور الإدارية من ناحية التعامل، وساعات العمل".

وتشير عضوة مجلس نقابة الأطباء السابقة إلى أن تنامي الأزمة الاقتصادية الحالية سيعرقل كافة الإجراءات الممكن اتخاذها من قبل الحكومة، لأن شريحة الأطباء، وخاصة الشباب، لديهم احتياجات متزايدة، لا يفي بها الكادر الحالي.

وتستطرد قائلة: "لابد من البحث عن حل لأسباب الهجرة، لأن إبقائهم رغمًا عنهم، أو بإجراءات تعسفية، لم يعد حلًا منطقيًا".

وحسب خالد أمين -عضو مجلس نقابة الأطباء- فإن "هجرة الأطباء" مسؤولية مشتركة بين الجهات المعنية، لافتًا إلى أن الأسباب المعلنة للهجرة "تدني الأجور، ضعف مستوى التدريب، وارتفاع تكاليف الدراسات العليا، وغياب قانون المسؤولية الطبية"، تعقبها أسباب أخرى يتحملها شيوخ المهنة، وأساتذة الجامعات في تعاملهم مع الأطباء حديثي التخرج".

وفي نهاية فبراير الماضي، علق الرئيس عبد الفتاح السيسي على هجرة كثير من الأطباء للخارج بقوله:"إن الرواتب التي يحصلون عليها في مصر لا تناسبهم"، لافتًا إلى أن البعض يترك مصر من أجل فرصة عمل في بلاد أخرى.

ويقول عضو مجلس نقابة الأطباء: "إن المعالجة التدريجية لظاهرة الهجرة هي الأنسب، بعد أن بدا واضحًا معدل العجز في مقدمي الخدمة الصحية، خاصة في التخصصات التي تحتاج إلى جهد أكبر، وخطورة أعلى في ممارستها.

 وسبق أن أكدت د.نجوى الشافعي -وكيل نقابة الأطباء- على أن ضعف الرواتب، مقارنة بما يحصل عليه الأطباء بالدول الأخرى تسبب في عجز الأطباء حاليًا، حيث يعد أجر الطبيب متدنيًا طبقًا للمعدلات العالمية.

واستطردت قائلة: "لدينا 303.358 ألف طبيب مسجل بالنقابة، بينهم 20ألف حالة وفاة، و62 ألف محالون إلى المعاش، ويتبقى فى مصر نحو 125 ألف طبيب، ومع هذا الدولة، والرئيس يسعيان لإصلاح عوار المنظومة الطبية، ونحن نطمح إلى المزيد من الإصلاحات لوقف الهجرة".

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة