نصف بدوية نصف مصرية.. أول عمل وأولى الخبرات

ظلت حياتي هادئة في دهب وسط عائلتي الجديدة وأصدقائي ومجتمعي الداعم. عندما تركت القاهرة، فقط أخذت قطتي وبعض ملابسي ولم يكن في حسابي البنكي وقتها سوى ١٠٠٠ جنيه، فعملت بأكثر من وظيفة في البداية ولكن كانت وظيفتي الأساسية في مطعم نباتي. كنت محظوظة للغاية ففي أثناء تصفحي الفيس بوك وجدت إعلاناًَ من صاحبة مطعم في إحدى مجموعات دهب، كانت تبحث عن شخص للعمل والمساعدة في بعض المهام البسيطة. ابتهجت وقتها وأرسلت لها رسالة وقابلتها في اليوم التالي.

كانت مقابلة من دقيقتين، شكرتها على تأسيس مطعم نباتي، وأخبرتها أننى متحمسة للعمل معها لأنني نباتية منذ عامين. بدت شخصية لطيفة للغاية، فبدأت العمل من اليوم الذي يلي المقابلة مباشرة. في البداية تحمست لرغبتي في تعلم إدارة المطاعم وتحضير المأكولات النباتية وكيفية العناية بنظافة الأطعمة ولكن بعد يومين من العمل ضاق صدري فشعرت أنني كنت مدللة للغاية في منزل والدي، والآن علىّ أخذ أوامر وتعلم نظافة كل شيء ومعاملة الزبائن بود لمدة ست ساعات كل يوم ولكن المقابل المادي كان مجزياًَ فظللت أتعلم المزيد والمزيد.

في الشهور التالية بدأت شيلا، صاحبة المطعم، تلاحظ أنني تعلمت تقريباً كل شيء، فبدأت تعليمي المزيد عن الإدارة نفسها وحينها أدركت أنه لم يكن مطعمًا عاديًا، فقد كانت شيلا -وحتى الآن- جزءً من جمعية عالمية للحفاظ على البحار وكانت تخصص جزءً من دخل المطعم للتبرع للجمعيات المعنية بالبيئة. أما في دهب فكانت تنظم حملة أسبوعية لتنظيف الشواطئ، وقررت أن تسند هذه المهمة لي أيضًا. هنا تعلمت المزيد عن الشواطئ والمحيطات والحيوانات المائية وهو ما لدى شغفًا كبيرًا تجاهه. وجدت نفسي محظوظة للغاية ببداية حياتي العملية في هذا المكان فقد كانت هذه أول وظيفة لي على الأرض بعيدًا عن وظائف الإنترنت.

كان مطعمنا ملاصقاًَ لمخيم السندباد وكان بيتي وراءه على بعد دقيقتين ما جعلني مجاورة لعائلتي البدوية طوال الوقت. كنت غالبًا أتناول إفطاري مع أسرة سلامة ثم أتناول الشاي في سندباد وأذهب إلى عملي، وبعد العمل قد أتناول الغداء مع أسرة سلامة أو أسرة حسان ولكن المؤكد أنني في كل الأحوال كنت أقضي وقت الغروب مع عائلة حسان. لاحظت أن صديقتي نوال -زوجة حسان- تهتم بمعرفة ما يحبه الغير فبدأت تلاحظ أكلاتي المفضلة وأنشطتي التي أقضي وقتي فيها كما لو كانت أختي التي اختبرت حياتي منذ القدم.

كانت شيلا دائمة الثناء على شخصية حسان فكانت ترى دائماًَ أن وراء وجهه العبوس شخصًا رقيقًا اختبرته في مواقف بالغة الصعوبة بالنسبة لها. من الغريب أنني أنا وشيلا كلانا مر بمواقف مشابهة فكلتانا خانها إخوتها بسبب المواريث وكلتانا غادرت بلدها أملاََ في العلاج بعيدًا عن البيئة التي جعلتنا مرضى، والأجمل أن كلتانا قابلت حسان في بداية زيارتنا لدهب فقد زارت شيلا دهب في المرة الأولى عام ٢٠٠٣ وكان حسان أول من تعاملت معه هنا وظلت تهبط إلى مخيمه في كل زيارة مثلي تمامًا حتى استقرت في دهب ولكن في المخيم الملاصق لسندباد. علمت فيما بعد أن حسان في البداية كان يعمل في هذا المخيم وبعدها انتقل إلى سندباد. كان يأسرني جمال الفكرة في أن حسان المقبل على بداية عقده الخامس وشيلا التي هي في منتصف عقدها الخامس بالفعل قد قابلا بعضهما لأول مرة منذ عقدين وكان كلاهما في زهرة شبابه، وكانت دهب مختلفة عن الآن، لابد وأنها كانت أكثر هدوءً وجمالًا وبرية عن الآن.

في إحدى المرات خرجت من مكان عملي لأشترى بعض الأشياء وعند عودتي وجدت زملائي في حالة قلق عني، فقد كان هناك رجلًا بملابس بدوية بيضاء يسأل عنى وتبعه رجل آخر وظل هاتفي يرن عشرات المرات. أصابني القلق فوجدت أن المكالمات كانت من حسان ولكن حسان لا يرتدي ملابس بدوية ولا حتى جلابية إلا نادرًا. اتصلت به وحدثني بأنه أرسل عم غريب -صديقنا من البدو القدامى- إلى المخيم بوجبة المحشي وقال ” أم فادي عارفة إنك بتحبي المحشي فشيعت لك حصتك”. شعوري الطفولي بالفرحة قتل كل مشاعر الخوف والقلق وهرعت في حينها إلى سندباد لأتسلم جائزتي وهي نصيبي من محشى أم فادي الذي لا أجد فيه طعم محشي لذيذ فقط بل أجد فيه شعور أخت كبرى وأم معطاءة كثيرة الاهتمام، فلا تستخدم فقط خلطة توابل سرية بل مزيجًا من طاقة الحب والمؤاخاة والحنان مع رشة سخية من الاهتمام.

في هذا اليوم، ظل زملائي في العمل قلقين لاختفائي دون إعطاء أي أجوبة شافية ولكني عدت مع علبة المحشي.

 كان ما حدث، واحدًا من المواقف الطريفة التي شهدتها أثناء عملي في هذا المكان، كان موقفًا حنونًا من عائلتي الجديدة. في هذا المكان كنا مجموعة من النساء نعمل في مطعم نباتي وندير مشاريع بيئية وكأننا ممثلات عن البيئة وعن كل امرأة أرادت أن تثبت لكل رجل أنها ندًا له فكنا كثيرات الدعم لبعضنا البعض وكانت شيلا دائمة النصح والإرشاد لي فبدونها لم أكن أبداًَ لأسلك نفس الطريق الذي أسلكه اليوم.

استمر الأمر – عملي وأحوالي- على هذا الحال عامين كاملين قابلت خلالهما العديد من الناس والشخصيات الفريدة وتعلمت الكثير عن البيئة وإدارة المطاعم وعن تحضير المأكولات ونظافتها، بل وعن النباتية والأخلاقيات وعن الثقافة البدوية التي وجدتها ثقافة أصيلة تتحصن بالأخلاقيات والتسامح. وصلت الكورونا أراضي دهب وفى يوم وليلة حولها القدر إلى مدينة أشباح خاوية على عروشها. حتى زملائي في العمل غادروا إلى عائلاتهم وظللت أنا وشيلا وأصدقائي، قررنا، أنا وشيلا، تقديم خدمة التوصيل للمنازل في محاولة بائسة لجني أي أموال وبالفعل مرت مرحلة الإغلاق بسلام ولكن شريكنا بالمكان لم يكن راضيًا عن الدخل الزهيد فغادرنا المكان في نهاية نوفمبر ٢٠٢٠.

حزنت، فقد تحول هذا المكان من مكان عمل إلى مكان ميلاد، أطلعني على الكثير عن الحياة ولكن سنة الحياة الديناميكية والتغير هو الشيء الوحيد الثابت.

كانت مفاجأتي عندما قررت شيلا مغادرة دهب وقبول عرض بالعمل على سفينة تابعة لإحدى الحملات لتنظيف المحيط وكان المقابل المادي مناسبًا، ولكنها لم تنسني ففاجأتني برفضها بيع أي من أدوات المطعم وقالت لي ” يمكنك الاستمرار في العمل من مكان آخر، الأدوات والماكينات وحتى الوصفات لكِ الآن، أتمنى أن تبدأِ شيءً، فلطالما تخيلتكِ تديرين عملاًً رائعاًَ وأخلاقياًَ”.

غمرني الدفء، فهذه المرأة شديدة الروعة أعطتني الكثير لبدء حياة كاملة وليس فقط عملاًَ بمرتب ثابت. عندما علم حسان وعائلته بذلك دعموني وتمنوا لي التوفيق، وقد أكد لي حسان أن عند احتياجي لأي مساعدات فهم هناك وأنهم على أتم استعداد لمعاونتي في أي وقت. هذه هي الحياة عندما يغلق باباًَ، فُيفتح الآخر من تلقاء نفسه وعند خيبة الأمل يولد أملاًَ جديدًا، وعند فقد العائلة قد تجد كل ما يعوضك عنها بل بدفء ودعم يفوق قوة عقلك على تفهمه.

يتبع…

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة