نصف بدوية نصف مصرية.. تنقل واستقرار

نصف بدوية ونصف مصرية هي هويتي الحالية التي لم أقررها، بل قررها عني أطفال قبيلة المزينة عندما لاحظوا لهجتي المصرية التى يغلب عليها كثير من الكلمات البدوية فصار بعض البدو والمصريين يتساءلون عن هويتي فقرروها بدلا عني.

تبدأ حكاية هويتي الحالية في القاهرة حين كان يحب والدي الانتقال بنا، فكانت طفولتي مليئة بالرحلات والأسفار والبيوت المتغيرة ولعل هذه كانت هويتي الأولى؛ رحالة. فجأة قرر والدي العودة إلى القاهرة والاستقرار هناك أملا، في الحصول على تعليم مناسب ومواكبة حياة المدينة ومجاورة عائلتنا الممتدة.

لم يغير الاستقرار في القاهرة شيئاً فظللت أشعر بعدم الراحة وعدم الانتماء، وظللت اقتنص أى فرصة سفر خارج القاهرة مما كان يطمئن والدي أن في استطاعتي التحرك وفهم عوالم أخرى خارج كوكب القاهرة، القاهر المميت. لا سيما تشجعت على رؤية دهب التى زرتها معه في طفولتي بضع مرات.

في زيارتي الأولى رأيت حياة غريبة؛ بدو ومصريون وأوروبيون يعيشون معاََ في مكان شبه بدائي ويبدو عليهم الرضا والتعايش. قابلت سائق سيارة أجرة وحكى قصته في الانتقال من المنصورة إلى دهب. كان شخصاً عادياَ يبدو عليه آثار حياة الفلاحة في أصالته ولهجته وملامح وجهه القوية التي يخترقها مسحة من الصبر تماماً كالتعامل مع أرض زراعية متنوعة المحاصيل.

لفت نظري في حكايته كيف فضل دهب بربع دخله الذي اعتاد عليه في المنصورة رغم أنه رب أسرة، وعلل ذلك قائلاََ: “هنا في حرية، أنا عايز ولادي يعيشوا في حرية وأمان. اسيب لهم حرية التعامل مع الناس عشان في أمان والفلوس القليلة شوية هتعيشهم كويس”. داعبت الفكرة عقلي ولكني كنت لازلت طفلة دون سن العشرين أمامى سنوات للتخرج من كلية الآداب قسم لغة إنجليزية كما كان حلمي أنا ووالدي.

ظل الحال كما هو، اقتنص أى فرصة سفر إلى دهب حتى أصبحت أقضي كل نهاية أسبوع  هناك دون كلل أو إرهاق من طول المسافة، أما في الصيف فكنت أقضي ما يزيد عن الشهر مع قطتي بروني. كنت استأجر غرفة في مخيم سندباد وأُطيل المكوث كلما استطعت. كنت لا أشعر ببعدي عن المنزل، كانت الأجواء عائلية وكان مدير المخيم حسان شخصاً غريباً حقا. كان هذا الشخص الذي لا يجود بالكلام قط، عبوس الوجه دائما، بالكاد تحصل منه على رد شاف ولكنني لم اسمعه يسب شخص مطلق حتى وإن حدثت مشاجرة. لم استطع الحكم عليه أبدا إن كان شخصا جيدا، ولكني لم استطع الحكم عليه بأنه شخص سيء، بالعكس كان يهتم بي كثيرا خاصة عندما لاحظ حداثة سنى. لم اقم بحجز غرفتى مسبقاً ابدا، بل كنت أقرر السفر واسافر فاهبط فوق طاولة حسان حرفياً فلا أسمع منه سوى “اهلااااااا.. انتي بتحبي غرفة ٢٤ هافضيهالك من الناس اللي فيها حالا”.

ظلت الأمور على هذا الوضع حتى بدأت صحة أبي في التدهور وحينها فضلت رعايته وبقيت جواره حتى جاء أمر الله في فبراير ٢٠١٨، وكانت بداية النصف الأخير في الجامعة.. كنت على وشك التخرج. كنت في حالة اكتئاب منعتني من الخروج لشهور طويلة ولكني تمكنت من التخرج لتحقيق حلم أبي فكافأت نفسي بإجازة لمدة شهر في دهب مع قطتي. كانت لى أخت تصغرني بعامين فشقَّ عليّ الانتقال إلى دهب وتركها بمفردها فاكتفيت بإجازة حتى أعود إلى القاهرة وأبدأ البحث عن وظيفة أعرف أنها لم تكن لتجعلنى سعيدة ابداََ.

كانت صدمة كبرى عند عودتي إلى القاهرة فقد تبدلت الوجوه وسقطت الأقنعة، استولت اختى على ميراثي وعلى المنزل. لم يزعجني هذا فعلى الرحب والسعة، الأموال والبيوت لي ولها فبقيت معها حتى أصبح المنزل لا يطاق. كان يتم حبسى في غرفتى لفترة تصل إلى يومين في محاولة لإجباري على الرحيل. وفى يوم غابر من أيام سبتمبر كنت أحلم بأبي وعمي كلاهما، كُنا في جنة عالية تكسوها الأشجار وكنا على جسر أبيض فوق سحب بديع يأخذ انفاسى. كان احساسي كطفلة فهؤلاء هما الرجلان العظيمان اللذان زرعا في قيما وحبا للعلم وإذا بهما يودعاني ويمضيان، استيقظت في التاسعة صباحا وأول ما تلقيته كان خبر وفاة عمى الرائع الذي كان أول من رحب بنا في القاهرة. وحينها سقطت كل آمالى في أن ينصلح حالي وأن يرق قلب اختى فتمنيت للجميع التوفيق ورحلت على إثر رؤية أخرى رأيت فيها راهباََ يأخذنى من غرفة مظلمة إلى أخرى بجانب البحر. لم يكن مني سوى أن استيقظت وجمعت أغراضي وقطتى ورحلت. في البداية عملت كمتطوعة بمزرعة في أواخر عهدها. قابلت حسان وحكيت له ما دار في حياتى فقال لى: “انتى هاتعملى ايه في دهب؟ انتى معاكى شهادة ومن عيلة، هاتعملى ايه بكل ده هنا؟”. حينها أجبته بأنني بلا خطط. قال لى : “اقولك على حاجة، انتى مش لوحدك، احنا معاكى.. في يوم عايزة سكن، فلوس، اكل أي حاجة هاتيجي علينا وملكيش دعوة”.

تسلل الهدوء والسكينة إلى قلبي رغم عدم تأكدي إن كان هذا الرجل يعني ما يقوله أم لا ولكن حدثني قلبى أن اطمئن.

في هذا الوقت كنت شخصاً كثير الشكوى والبكاء، لا يعجبني شيئا فكان أبي في حياته يدللني حتى يفسدني وكنت لازلت تحت تأثير صدمات متتالية. فجأة أجد نفسي بلا أسرة وبلا شيء سوى قطتي وأغراضي في بلاد غريبة تبعد ليلة سفر عن كوكبي، بلا مصدر دخل فقط هذا الحسان يرحب بي ولا اعرف عنه شيئا سوى أنه يتحدث كمحمد هنيدي في فيلم يا انا يا خالتي لما كان عامل خليجي على حد قولي حينها.

لم أكن أعي وقتها أنه يعطيني عائلة وهوية ومعرفة جديدة وأنني في وقت لاحق – هو الآن – سوف اعرِّفه لأصدقائي على أنه أخي الأكبر. وأننى سوف اُعرِّف نفسي للناس باسم “صبيحة”.

يتبع…

1 تعليق

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة