فن حرمّته سعودية الماضي.. 3 حكايات احتضنتها القاهرة لم تعرفها عصور الترفيه

“طروف طلال”.. اسم لإمرأة عاشت على هامش الحياة، على هامش الحلم، على هامش كل شئ، قبل أن تختار القاهرة حاضنة لفنها. إذ لم تكن بلادها تعترف بمن هن مثلها.

لم تكن المملكة بعد شهدت عصور الترفيه.

اختارت “طروف” اسمًا آخر ربما يليق بمسيرة تعاتب الماضي والحاضر والمستقبل على أحلامها التي لم تشهد النور في حياتها، فكانت “عتاب”؛ صاحبة السيرة الأهم في الحياة النسائية الغنائية السعودية.

عرفها المصريون في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، وعرفها العرب في مصر، بأغنيتها الأشهر “جاني الأسمر”.

كان ظهورها لافتًا، ليس فقط للون الغنائي الذي تقدمه، لكن أيضًا بسبب رقصها وألوان أزيائها، وتبرجها اللافت، بعيدا عن ديار الوهابية، الظهور الأول لعتاب على المسارح الغنائية في مصر أثار جدلًا كبيرًا، ليس عن الغناء وحسب؛ لكن عن نساء الحجاز، اللائي لم يكن على خريطة الظهور السعودي في أي من المجالات المختلفة، فما بال الغناء.

أدرك العالم أن هناك صوت من أقصى الجزيرة يأتي ساعيًا للبحث عن فرصة. كانت تحلم بأن تكون أول فنانة استعراضية تمثل بلدها؛ حُلم مشروع هنا في القاهرة محرم في السعودية.

ولدت “عتاب” في شتاء 1947، لقبائل الهوسا، أو قريش الإفريقية – كما يطلق عليها- تلك القبيلة التي عانت تمييزًا وعنصرية لغالبية البشرة السمراء على ملامح أبنائها. فماذا عن امرأة سمراء تغني وترقص أيضًا؟

رفضها الجميع، وامتدح صوتها “طلال مداح” الذي أعلن تبنيه صوتها عام 1959، وهي في الثالثة عشر من عمرها، حين كانت لا تزال طفلة تُغني في الأفراح والحفلات للعوايل السعودية في منازلهم، حيث لا اختلاط بين النساء والرجال، سجل لها المداح عدد من الأغاني في السعودية ولبنان، ثم كانت انطلاقتها الأشهر حين التقت عبدالحليم حافظ غفي أحد زياراته للسعودية، وأشاد بصوتها وأخبرها برغبته في أن تشاركه في حفلة الربيع وهو ما حدث بالفعل في زيارة لها للقاهرة بعد ذلك.

كان لابد من أن يقف طموح هذه الفتاة السعودية التي تحلق بعيدًا عن مذهب المملكة -وقتها-، فصدر مرسوم ملكي بإبعادها عن السعودية، وطاردتها فتاوي مشايخ السعودية بإهدار دمها، فهربت إلى مصر، واستقرت بها، لتبدأ مشوارها في مطلع الثمانينيات، بما أسمته “عتاب شو”، الذي فتح الباب لمن أتين بعدها وقررن خوض الحياة ببراءة الأطفال وطموح الملائكة.

في القاهرة، استقرت عتاب وزوجها “محب عبدالصبور” الموظف المصري الذي كان يعمل بالسعودية، وطرحت العديد من الأغنيات، وتعاونت مع العديد من صناع الأغاني المصريين والعرب، أشهرهم محمد الموجي في أغنية “فك القيود”.

أنتجت العديد من الألبومات بمعاونة شعراء وملحنين من الكويت واليمن، بينهم الأمير السعودي خالد الفيصل. لكن مع كل تلك النجاحات التي عاشتها “عتاب” في مصر والولايات المتحدة، وحصولها على لقب مطربة الخليج الأولى في العديد من الاستفتاءات العربية والأجنبية، إلا أن أبواب وطنها لم تنفتح لها أبدًا.

بعد عقدين من الاستقرار في مصر موطنًا رحب بفنها، سافرت للإمارات في 2003 بعد إصابتها بالسرطان، لتكون بالقرب من والدتها الحاصلة على الجنسية الإماراتية، وبعد سنوات من الشقاء، وصلت للنهاية، مفلسة ومريضة وحيدة، بلا أحلام ولا طموح.

هنا فقط فتحت لها السعودية أبوابها، لكن ليس إلى منصات التكريم، بل لأسرة المستشفيات، التي استضافتها في الشهور الأخيرة من عمرها علاجًا على نفقة المملكة، بعد تدخل من الوسط الفني في السعودية في عام 2007، حيث عاشت لأشهر في رعاية خاصة، لكنها في أقصى لحظات الألم رفضت البقاء وأصرت على الرحيل لحاضنتها القاهرة، لتصل إلى مصر في الثامن عشر من أغسطس 2007، وتتوفى في اليوم التالي مباشرة، لتدفن في مقابر كانت أعدتها لتلك اللحظة في مدينة 6 أكتوبر، بناء على رغبتها في العودة إلى الأرض التي احتضنتها حية.

توحة.. أم كلثوم السعودية

بقدر ما كانت موجات التشدد تجتاح السعودية في بداية نشأتها، وبقدر ما حاولت هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر منع النساء من ممارسة حقوقهن التي منحتها لهن الطبيعة الصحراوية للجزيرة العربية، سمعنا عن بنات النجار اللاتي استقبلن النبي محمد لدى قدومه ليثرب، بالأغاني والأهازيج، فكان الشعر والغناء هو المتنفس لبنات الجزيرة من ظروف الحياة والطبيعة.

لكن مع دخول عهد الإظلام على الإرث الفني النسائي في السعودية، استطاعت نماذج قليلة الإفلات، ورغم صعوبة النجاة قليلات فقط، تمكن من التواجد على الساحة السعودية، لكن بلا أحلام ولا تطلعات، ارتضين أن يبقين في الظل سالمات.

أشهر هؤلاء مطربة اللاتي لم تعرفهن الكاميرات وأضواء الشهرة؛ توحة وابتسام لطفي.

نشأت “توحة” أو فتحية حسن يحيى، في الإحساء بالمنطقة الشرقية عام 1934 لأسرة فنية؛ فالأب مطربًا والأم ناقدة فنية، بينما كان شقيقها شاعرًا وكاتبًا غنائيًا.

انتقلت مع والدها إلى مكة، حيث كان يعمل موظفا في الحكومة السعودية، وكانت تتنقل بين بلد الحرم وجدة، حيث عائلة أمها، إلى أن استقرت بعد وفاة الأب في جدة، وانتقلت إلى القاهرة، حيث درست المقامات الفنية وأصول العزف، وسجلت أسطوانات لبعض الأغاني والمقطوعات الموسيقية على العود.

اشتهرت توحة بأنها “أم كلثوم السعودية”، والتقت كوكب الشرق مرتين في مصر والسعودية.

نجت توحة من مصير عتاب، لحفاظها على نوعية الأغاني التراثية التي تقدمها، ونمط الغناء النبطي والسامري، وهما من أشهر القوالب الفنية في الغناء الخليجي، وبذلك امتدت مسيرتها بالمملكة لنحو خمسين عامًا، وتعاقدت مع الإذاعة السعودية لتسجيل أغانيها.

وسجلت نحو 30 من ألحانها وكلمات شقيقها، في مقال كتبه الباحث الأردني نزار عساف في جريدة الرأي الكويتية، عن الإرث النسائي في الغناء السعودي.

توحة إحدى هؤلاء اللاتي ينتظرن أن تتذكرهن هيئة الترفيه بتكريم يليق بمشوارهن الفني الذي قُدم على استحياء خوفًا من نظرة مجتمع يبدو أنه لم يعد منغلق الآن، على عكس ما كان عليه وفرضه على أمثالها من حرية محدودة تقتصر على الأعراس والحفلات الغنائية التي ظهرت فيها “توحة” باسمها المستعار عوضًا عن فتحية حسن يحيى.

ابتسام لطفي.. صاحبة الإذن الملكي

في أحد اللقاءات التي جمعت الملك فيصل بن عبدالعزيز بفتاة كفيفة تغني للمملكة في احتفال وطني، اقتربت الفتاة من الملك طالبة الحديث معه.

توقع الجميع أنها ستطلب علاج عينيها، لكنها فاجأتهم والملك بطلب إذن الغناء بالإذاعة والتلفزيون، وكان لها ما أرادت.

تلك كانت حالة فريدة في ظرف استثنائي، وما نجحت إلا لكونها “حالة خاصة” لم يرد الملك أن يزيد عنائها بفقدان البصر بأن تفقد الحلم أيضًا.

غنت ابتسام لطفي وهو الاسم المستعار الذي اختارته بديلًا عن اسمها الحقيقي “خيرية”، لملحنين سعوديين كبار في تلك الفترة أمثال طلال مداح، وسراج عمر.

إلا أن الخطوة الأهم في مشوارها أيضًا كانت انطلاقتها من القاهرة، حيث لحن لها رياض السنباطي، الذي لم يكن متحمسًا لها في البداية، فطلب أجرًا مرتفعًا نظير ألحانه، وحين استمع لها أعاد لها كامل الأجر، بعد إعجابه بصوتها وحضورها، لتغني من ألحانه وكلمات أحمد رامي قصيدة “وداع”.

ومن أشعار إبراهيم ناجي لحن لها السنباطي أيضًا قصيدة “ساعة لقاء”، كما شاركت ابتسام في إحياء أول احتفالات لمصر بنصر أكتوبر، لكنها لظروف مرضها ابتعدت عن الساحة الغنائية بعد ذلك وهي في أوج نجاحها الفني وانطلاقها الغنائي.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة