مقهى المعلم زغلول.. عن وحدة المكان والأشخاص

يجلس المعلم زغلول “منجعصًا” في مقهاه بوسط المدينة يراقص “ليّ” الشيشة على صوت أم كلثوم، حيث لا صوت يعلو فوق صوتها في هذا الوقت المتأخر من الليل، المعلم زغلول لو أنك لا تعرفه فهو الذي وضعوا له كل العلوم في “الكوباية” وسقوه إياها، على حد قوله في مكالمة هاتفية طويلة مع حمدي ذات ليلة، حالفني الحظ لسماعها.

يبلغ زغلول من العمر 70 عامًا، ورغم ذلك لا يكف عن التصابي، فيرحب بالبنات الفاتنات ويعاملهن بلطف بالغ يكاد يصل إلى التجاوز أحيانًا، مستغلًا في ذلك شيخوخته، أيضًا يمنح الألقاب للزبائن المهمين، فلو أنك تذهب إلى المقهى بصحبة صديقاتك، فتصبح زبونًا مهمًا لديه، فيمنحك لقب “برنس”، ليس جهلًا منه باسمك، إنما إعجاب وتقدير من ذكر إلى ذكر، ومن أهم مكتسبات ذلك اللقب هي أنك تحصل على الخدمة كما يجب أن تكون، لأنه شخصيًا يوصي “صنايعي النصبة” على “المشاريب”، لكي تصلك بأفضل جودة ممكنة.

لا يخاف المعلم زغلول سوى من الموت، إلا أنه يخشى المباحث، فيعرف زغلول تمام المعرفة أنه لو لم ينصع إلى الأوامر، فلن يظل في مكانه، لن يجلس على عرشه ممسكًا “بليّ” الشيشة في أيامه الأخيرة.

 يشي زغلول بزبائنه مُكرهًا، إلا أنه ليس لديه خيار، إما أن يجلس ملكًا متوجًا في المدينة، أو أن يتمرد فيجلس في بيته ليواجه خوفه الأعظم وهو الموت الذي يهرب منه كل صباح إلى المقهى.

حين مات أحد زبائن المقهى الكبار، هلع زغلول هلعًا شديدًا، وأحمر وجهه كأنك لو ثقبته بإبرة سينزف دمًا لآخر نقطة فيه، ومرض مرضًا طويلًا، فظل أكثر من شهرين في فراشه، حينما عاد كان لا يزال أثر الإعياء عليه، ثم أتت فترة كورونا، فظهر خوفه الذي لطالما أخفاه عن الناس في احترازاته المبالغ فيها حيث كان يلبس “كمامتين” فوق بعضهما، ولا يصافح أحدًا بيده، وأقل مسافة بينه وبين أي شخص لا تقل عن متر ونصف، ولا يشرب شيئًا من “مشاريب القهوة” طوال اليوم، وزجاجة الكحول لا تفارق جيبه.

كل هذه الاحترازات تبدو عادية بالنسبة لشخص عادي، أما في هذا العالم فهو شيء غير عادي إطلاقًا، فكيف أن “معلم القهوة” لا يشرب من “مشاريبها”، كيف أصلًا يخاف على حياته وصحته بهذا الشكل، هناك مبدأ عام في تلك الطبقة وهو ما ذكره مصطفى ذكري في فيلم “عفاريت الأسفلت” على لسان جميل راتب ” أنا أبويا كان دايمًا يقولي: اللي يخاف على صحته أوي كده يبقى راجل خسيس”، فذاع خوف زغلول بين الناس وكثرت عليه “الحكايات.

 ما يميز زغلول عن غيره من معلمين قهاوي وسط البلد، أنه صاحب فلسفة ومبدأ وقواعد لا يسعك الخروج عليها، وكلمته لا تُرد ويمينه لا يُحنث أبدًا، أضف إلى ذلك تجربته الفريدة في “Customer Care”، حيث يعطي أجرًا لـ”صنايعي” الأرضية أعلى من أي قهوة في محيطه ويتبع هذا المبدأ بغرض عدم الاستنطاع على الزبون، فلا “يترازل” عليك القهوجي في البقشيش أو يتباطأ مستنطعًا في إعطاءك باقي الحساب فتتركه بسيف الحياء كما يحدث في المقاهي الأخرى حيث يبخس أصحابها “الصنايعي” أجره باعتبار البقشيش أجرًا مكملًا.

أيضًا، ما يميز “قهوة كمال” عن غيرها من القهاوي، أنها ليس بها أي ألعاب ولا حتى “ترابيزات”. في البدء تراه عيبًا لا ميزة، ولو جلست عليها للمرة الأولى قطعًا لن تستريح، لكن لن تلبث إلا أن تفهم منطق زغلول وهو أن القهوة مش للعب، القهوة للتأمل، ولن تسلى الجلوس في ذلك الممر الدافئ بصحبة أحدهم أو بصحبة “كوباية شاي” وحجر قص أو تجمع بين الحسنيين إن شئت.

في مقاهي وسط المدينة مسموح بلعب القمار لأصحاب المعلم فقط، لكن بضوابط معينة حتى لا تثار الشبهات، أولها، لا يخرج أحد مالًا من جيبه أبدًا إلا ليحاسب على طلباته، أما عن المكسب والخسارة فالحساب بعد الانصراف، وثانيها، مهما حدث من خلاف لا يصل إلى حد الشجار أبدًا ولا حتى الصوت العالي، أما ثالثها، أن يرتضي الجميع حكم المعلم مهمًا كان جائرًا.

قطع المعلم زغلول قسمًا غليظًا منذ سنوات على إلغاء الألعاب من القهوة للأبد بعد كسر أهم قاعدة من القواعد الثلاث، حيث جاء ذلك القسم بعد معركة ضارية نشبت إثر دور “كوتشينة” بين أصدقائه حيث ضُبط أحدهم متلبسًا بالولد الخامس، وكان هذا الدور على مبلغ كبير نسبيًا فخرجت الأمور عن السيطرة، فكاد أحدهم أن يقتل الآخر ولكن عناية الله كانت حاضرة، فأقسم المعلم زغلول القسم الذي غير معالم “القهوة” للأبد ولم يحنث به من وقتها إلى الآن.

لن تستطيع أن تكره المعلم زغلول رغم كل ما تسمعه وتراه، لأنك تقع في غرام ذلك الممر الفسيح الدافئ وكل ما يتعلق به، ليس هناك شيء مميز في “مشاريب القهوة” إنما هو سحر المكان لا أعلم من أين ينبعث ذلك السحر بالتحديد، من البنايات، أو الدكاكين، ربما من الصنايعية الذين يجلسون صباحًا فيتركون دفئًا ما، ربما تتحول أنفاس “المعسل” الذي نشربه إلى ذكريات تتناثر في رحابات المكان.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة