بعدما كان حسان أول من رحب بي في دهب شعرت بالطمأنينة لأول مرة بعد وفاة والدى. فى البداية أقمت وعملت بمزرعة فى أواخر عهدها حتى اضطررت إلى الانتقال الى بيت خاصةََ وأننى كنت قد بدأت العمل فى مطعم نباتى مما كان بمثابة فأل حسن فقد كنت نباتية لمدة عامين حينها. كنت قد كلفت سلامة صديقنا المبتسم دائم المزاح فى سندباد بمساعدتى بالبحث عن بيت لطيف ذو مساحة رحبة.
بعد شهور بسيطة من البحث وجد سلامة بيتاََ صغيراً ولكنه أكثر من كاف لى وقد كان ملاصقاََ لبيته. كان البيت موحشاََ وكئيباََ كالخرابة ولكنه صغير وبينه وبين الشاطىء دقائق قليلة وكان فى الشارع المواز لعملى. كان الأهم لى فى موافقتى على هذا الوضع مجاورة سلامة وحسان وباقى الأصدقاء ، بل ومجاورة مخيم السندباد نفسه.
انتقلت إلى البيت فى فبراير ٢٠١٩ وشعرت بالبهجة هناك على رغم وحشته. قمت بدهان الحوائط بنفسى وتجديد معظم المكان وحتى شراء الأجهزة بالكامل. كان ذلك بمثابة بداية جديدة فهذه الطفلة حديثة العهد بالحياة قادرة الأن على اتخاذ قرارات فى الحياة. أما اخوتى حسان وسلامة ، نعم الإخوة قد قررا زيادة دخلى فقاموا بتجميع مجموعات صغيرة من ابنائهم لتدريسهم اللغة الإنجليزية ، حينها كنت اعمل بتدريس أطفالهم ساعتين كل يوم وأعمل فى المطعم لمدة ست ساعات واعمل كاتبة فى موقع الكترونى ولكن بعد بضعة أشهر قررت التخلى عن التدريس وقام الموقع بالتخلى عن العمالة مما أشعرنى ببعض الراحة فقد كنت بالفعل على أرض صلبة.
فى تلك الآونة بدأت استكشاف عالم جديد من الثقافة البدوية فهؤلاء من ذوى الجذور العربية الأصيلة غمرونى بالدفء والعطف. بدأت بملاحظة الفروق بين كل بدوى وأخر وبين كل عائلة وأخرى وقبيلة وأخرى فحسان وسلامة من شمال سيناء ، التفت إلى اختلاف لهجة الشمال عن الجنوب التى تبدو لنا سكان وادى النيل مفهومة. تعرفت على جمعة، شاب طموح يسعى لتحسين كل ما يقدر عليه فيدرس الترجمة فى الجامعة المفتوحة بالقاهرة. قابلت محمود ابن أخ حسان الذى كان فى الصف الثانى الثانوى حينها وقد عانى من ويلات الحرب والفقد كلاهما منذ طفولته ولكنه انشغل بدراسته حتى التحق فى ٢٠٢٠ بكلية العلاج الطبيعى. قابلت عائلة سلامة ، كانوا ينتظرون عودتى من العمل يومياً ودعوتى للغداء حتى أصبحت واحدة من الأسرة. قابلت أبناء حسان وكانوا فى المرحلة الابتدائية ، والأهم أننى قابلت والدتهم "منال" المعروفة بأم فادى . كنت اسمع اسمها كثيراً حتى قابلتها، إنسانة بشوشة رقيقة القلب ، سريعة البديهة ومحبة لكل شىء حرفياً حتى أصبحت أختاً لي وحافظة سرى وناصحتى التى أثق بسداد رأيها. قابلت أم فادى الكبيرة، والدة منال وكانت مقابلتى الأولى لها مليئة بالسحر فقد عرفتنى بمجرد أن دخلت المنزل فقالت : " انتى سمر صاحبتهم اللى من الوادى -وادى النيل- " جلسنا وتحدثنا لساعات وقالت لى " أنا عرفت حكايتك منهم والمثل يقول اسعى وحدك ترجع راضى، ربنا هايرضيكى " . وقابلت والدة حسان التى ميزتنى بسرعة أيضاً ووصفتنى بـ " سمر اللى من الوادى" ، لطالما شعرت بدفء هذه الشخصية وحنوها على من حولها فتتميز دائماََ بالعطاء وبدمج الغير لمجموعتها فتكون مجتمعاََ خاصاً بها وبمحبيها. لعل وصفى بسمر من الوادى يظل علامة فارقة فى تكوين هويتى فمن وقتها وانا اشعر بالتميز والتفرد لكونى مصرية من وادى النيل. قابلت الجدتين مرات عديدة أخرى وفى كل مرة عند عودتهم إلى الشمال أشعر بالوحدة، فكم افتقدت حياة الوادى للجدات!
كانت أول نصيحة قيلت لى من حسان أن سنى هو المناسب للبداية من الصفر فقد ظل حسان يعمل ويفقد الأموال حتى فى سن الأربعين ولكنه حين رآنى ابدأ من الصفر فى الثانية والعشرين من عمرى قال لى " انتى محظوظة على الأقل شايفة الصفر، ساعات نبدأ من أقل منه كمان ". كانت تنتابنى نوبات القلق والغضب والبكاء ولكنى لم أكن بمفردى ابداََ. كان حسان وأسرته يهدؤون من روعى ويشغلونني بالأحاديث والشاى والنار المشتعلة تحته.
استرجاعى ذكريات شم النسيم فى القاهرة كانت ضربة طاعنة لى حتى قررت الاحتفال مجدداً ولكن هذه المرة مع أختى منال ، أم فادى فحضرنا البريوش سوياََ وقررنا دمج الأطفال معنا فصممنا حرباََ من بالونات الماء فكنا أطفالاً كباراََ مرة أخرى. لا أنسى حينما كنت على وشك الانتحار عندما تذكرت أختى وقسوتها فهرعت إلى سلامة وأسرته ، كنت غارقة فى الدموع وما كان من سلامة سوى إشعال بعض النار وتحضير بعد المقبلات والمزاح والفكاهة والكثير من المزاح والفكاهة حتى اطمأن على تحسن حالتى فقال لى " انتى مخسرتيش حد. دى كانت عيلة صغيرة وجيتي على عيلة اكبر منها ملهاش اخر". رأيت فى العائلة الجديدة معانى لم أكن على دراية بها خاصةً فى رمضان وهو موسم غير مفضل بالنسبة لى ولكنى رأيت الحب والتكافل بينهم ، اطباق الطعام التى تطوف من منزل إلى آخر يحملها الاطفال ومساعدة هؤلاء بعضهم البعض فى أعمال المنزل وتحضير الطعام وتجمع السيدات كل ليلة لأداء صلاة التراويح. لا أحد منبوذ فى حضرة الاصالة.
لاحظت أننى اشترك مع عائلة حسان فى النزوح فكلانا نزح من مكانه لأحداث ما وكلانا تم سلب أرضه لأسباب ما وإن اختلفت. كثيراً ما يتم استضافة ضيوف ذوى جذور فلسطينية فى المخيم وكثيراً ما نجلس على طاولة واحدة ونشارك بعضنا قصص النزوح فيحكى أحدهم عن أرضه والويلات التى عاناها عندما سلب المحتل الأرض ويحكى حسان عن أرضه فى الشيخ زويد وحياتهم القديمة وكيف كان هؤلاء ينعمون بالحرية والوفرة حتى تم قصف كل شىء. كنت اجلس على الطاولة واستمع بإنصات فاتساءل :هل جمعنا القدر ام اننا منبوذون نازحون إلى أرض التيه حتى نرجع بقبس أو نجد على النار هدى؟ ام اننا قررنا السفر سوياََ من حيوات سابقة ؟
كان مكان عملى هو المخيم الملاصق لمخيم السندباد فكان فيه المطعم النباتى وكانت مديرته سيدة خمسينية من انجلترا اسمها "شيلا". أصبحت شيلا أمى الروحية. لاحظت شيلا ضيقى وحزنى وقلة تركيزى معظم الوقت فظلت تسألنى عن حياتى وبدأت بالفضفضة ، حكيت لها عن فقد والدى وعمى وحتى قطتى التى توفيت فى نفس الشهر الذى نزحت فيه عن منزلى وعن اختى التى فضلت فقدى والاستيلاء على نصيبى فى المال والمنزل فقالت شيلا " اختك لا تبدو كشخص جيد وانتى لازلتِ صغيرة لتمرى بكل هذه التجارب" . عملت مع شيلا حتى نهاية نوفمبر ٢٠٢٠ وذلك لاضطرارنا لإغلاق المطعم . فى فترة عملى لها كانت دائمة النصح لى والدفاع عنى وتشجيعى وتعليمى المزيد عن إدارة المطاعم وعن تحضير الطعام. كانت تشجعنى على تقوية علاقتى باصدقائى البدو وكان تثنى عليهم جميعاً ، خاصةََ حسان. ويظل الحدث الأهم أننى تعرفت على سمر ، أنا.
اقرأ أيضاً: نصف بدوية نصف مصرية.. تنقل واستقرار