“الدمج التعليمي” وخسائر التسرع

الدمج في التعليم، أحد تطبيقات الشعار العام “التعليم للجميع” كحق من حقوق الإنسان الأساسية، لكن هذا الحق لم يشمل الأشخاص ذوي الإعاقة حتى منتصف القرن العشرين تقريبا، حيث ساد الخلط بين التأهيل الذي يهدف لتنمية المهارات الجسدية بشكل أساسي، وبين التعليم الذي يهدف لتنمية المعارف والمهارات الأساسية مثل القراءة، والكتابة، والتفكير العلمي.

واستمرّ هذا الخلط حتى تطورت أساليب تعليم الأطفال ذوي الإعاقة خاصة أسلوب منتسوري الذي أحدث نقلة نوعية في تعليم الأطفال ذوي الإعاقة، وكان بداية لتطور مناهج وأساليب تعليم خاصة بذوي الإعاقات الذهنية بالتحديد، أما فئات الإعاقة الأخرى فكانت تتعلم بطرق مختلفة تتناسب مع طبيعة الإعاقة، فالإعاقة البصرية تتعلم عن طريق السمع ومنهم طه حسين، الذي أثبت عمليا القدرة على التعلم والوصول إلى أعلى الدرجات العلمية، أما الإعاقة السمعية فتبدأ بلغة الإشارة حيث تحل حركة اليد محل الصوت، ووصل بعضهم لدراسة الطب في مثال واضح على أن قدرتهم على التعليم لم تعد محل شك، لكن هذه النماذج تظل استثناء في ظل ضعف الإمكانيات المادية والبشرية في مجال تعليم ذوي الإعاقة.

تطور تعليم ذوي الإعاقة، ظل حتى وقت قريب يقوم على التقسيم الفئوي، والعزل عن غيرهم من الأطفال، وهو ما عُرف باسم التربية النوعية، ففي مصر مثلا هناك مدارس الوفاء والأمل الخاصة بذوي الإعاقة السمعية، ومدارس النور لتعليم ذوي الإعاقة البصرية، ومدارس التربية الفكرية لذوي الإعاقة الذهنية، هذا التقسيم الفئوي والعزل بمؤسسات نوعية خاصة أدى إلى إقصاء اجتماعي لذوي الإعاقة عن المجتمع، وحصر نشاطهم في مجموعات صغيرة معزولة عن الحياة العامة، وضعف فرصهم في الحصول على عمل.

أدرك العالم منذ منتصف القرن الماضي، أن فلسفة التربية النوعية تؤدي لخسائر كبيرة على المستويين الاقتصادي والاجتماعي، فالعزلة التي تفرض على ذوي الإعاقة تجعلهم أقل من غيرهم في الاندماج بالمجتمع، كما تحد من فرصهم في الحصول على فرص عمل واعتماد أغلبهم على الدعم الحكومي، وتواكب ذلك مع صعود الحركة الاجتماعية للإعاقة في أوروبا وأمريكا، وكان التعليم الدامج أحد مطالبها، ويعني التعليم الدامج أن يحصل ذوي الإعاقة على التعليم في المدارس العامة مثل الجميع، وبنفس المستوي والمناهج، ويكمن الاختلاف فقط في أساليب وأدوات التعليم، وبالفعل صدرت قوانين للدمج في أوروبا ثم أمريكا بداية من السبعينات، وحقق التعليم الدامج نتائج إيجابية كثيرة منها تحسن المستوى التعليمي لذوي الإعاقة، وتحسن الاندماج الاجتماعي، وتطور اساليب التعليم، وانتشرت فلسفة التعليم الجامع بشكل كبير حتى أصبحت من الحقوق المعترف بها دوليا بالنص عليه بالاتفاقية الدولية لحقوق ذوي الإعاقة.

ولم تكن مصر بعيدة عن هذا التطور، خاصة بعد توقيع مصر على الاتفاقية الدولية، وعملت وزارة التربية والتعليم على تطبيق الدمج التعليمي بشكل سريع، لكن هذه الرغبة لم تتواكب مع إعادة تأهيل المنظومة التعليمية، فالمدارس غير مجهزة لذوي الإعاقة، وتفتقر للأدوات الحديثة، وبالطبع تفتقد العنصر البشري المدرب وهو العنصر الأهم في الدمج التعليمي؛ أدى هذا التسرع إلى نتائج عكسية، فكثير من أولياء الأمور سحبوا أولادهم من المدارس الدامجة، وتعرض بعض الأطفال ذوي الإعاقة للتنمر خاصة أن الأطفال غير ذوي الإعاقة لم يتم تأهيلهم للدمج وفهم وجود أطفال مختلفين عنهم، ولم يرتفع المستوى التعليمي لذوي الإعاقة.

تعكس هذه النتائج غياب الدراسات المسبقة للبيئة التعليمية، وعدم فهم الدمج التعليمي كفلسفة وما تستتبعه من إمكانيات مادية وبشرية، فالدمج ليس عملية سياسية تنفذ بقرارات بل عملية مركبة تحتاج للدراسة، وتحسين البيئة، والأهم إعداد كوادر بشرية مدربة وراغبة للعمل مع ذوي الإعاقة في مكان واحد يجمعهم مع غيرهم، فالدمج المتسرع يؤدي لنتائج عكسية، ويجب دراسة تجربة الدمج في مصر ميدانيا بدقة لمعالجة الأخطاء، ووضع سياسة جديدة تدرك فلسفة الدمج من جهة والإمكانيات المتاحة من جهة أخرى.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة