ظل القطن عصب الاقتصاد المصري والمحصول النقدي طوال القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين؛ حينما كان العالم منشغلا بحروبه العالمية، كانت مصر تصدر أجود أنواع الأقطان وساهم بشكل رئيسي في تسديد ديون مصر لإنجلترا التي اقترضتها منذ عصر إسماعيل خاصة بعد احتكار الإنجليز للمجرى الملاحي لقناة السويس لم يبقى سوى هذا المحصول للوفاء بالديون.
لكن ماذا حدث؟
تقلصت المساحة المزروعة من مليوني فدان إلى مائتي ألف فدان فقط مما أدى بدوره لتراجع مصر من الإنتاج العالمي وتصدر تلك الدول: ( 1- الهند، 2- الصين، 3- أمريكا، 4- باكستان، 5- البرازيل، 6- أوزبكستان، 7- أستراليا، 8- تركيا، 9- الأرجنتين، 10- اليونان).
وفي إفريقيا نجحت مالي خلال موسم 2018 في إنتاج ما يناهز 700 ألف طن من القطن مما جعلها تتصدر قائمة الدول المنتجة في إفريقيا للذهب الأبيض في حين تراجع إنتاج مصر والسودان في آخر عقد على الرغم من توافر كل الظروف الطبيعية والمناخية الملائمة.
القطن له أنواع عديدة وكل نوع له استخداماته الصناعية وآلات نسيج مختلفة، ومهما كانت الكمية المنتجة في مصر تظل في المراكز الأولى بين دول العالم في إنتاج هذا النوع من القطن (طويل التيلة).
وفقا لبيانات 2019 جاءت مصر في المرتبة العاشرة كأكبر دولة مصدرة للقطن الخام بقيمة بلغت 168 مليون دولار، وهذا رقم متواضع للغاية مما جعل الفلاح المصري يفضل زراعة الأرز نظراً لارتفاع تكاليف زراعة القطن وقلة العائد، وتصدير القطن خام يدل على عجز رهيب في استغلال الموارد الطبيعية في البلاد. وعلى الرغم من تصدر الهند إنتاج القطن إلا أنها تستورد من مصر. الأمر ليس متعلق بالنسيج فقط، الدولة تقوم بإستيراد نحو 99% من الزيوت والدهون الغذائية وبكمية تصل نحو مليوني طن سنوياً ويمكن تقليل تلك الفجوة من خلال الاعتماد على بذرة القطن المحلي كمنتج ثانوي للقطن غير توفير الأعلاف (الكسب).
ووفقاً لاحصائيات الهيئة العامة للتحكيم واختبارات القطن بلغت واردات مصر 1,8 مليون قنطار من القطن خلال موسم 2020/2021، ولكن هناك تناقض عجيب في الأرقام: إن الهند، أكبر دولة منتجة للقطن في العالم في الوقت الراهن هي ذاتها أكبر دولة تستورد القطن من مصر حيث أن الهند تستورد نسبة 63,7 من الأقطان المصرية في السوق العالمي!
هل هناك تفسير منطقي لهذه البيانات؟ ولأن الدراسة النظرية لا تجيب على كل التساؤلات كانت زيارتي الميدانية لشركة العامرية للغزل والنسيج. وملخص القضية: تعد العامرية احدى الشركات المتخصصة في الغزل والنسيج والمفروشات، ومملوكة بنسبة 100% لبنك مصر، مقامة على مساحة 430 فدان بالإسكندرية، وبها 3 مصانع غزل ومصنع نسيج ،ومصنع تجهيز و4 مفروشات.
حجم استهلاك الشركة من الأقطان يبلغ سنويا 35 ألف قنطار بينهم 30 ألف مستورد، و5 قناطير فقط من الإنتاج المحلي، ومن العجيب أن شركة العامرية استوردت من اليونان 80% من احتياجاتها للقطن.
تتكبد الشركة خسائر متلاحقة وصلت إلى 20 مليون سنويا.
قامت مؤخراً بوقف العمل بمصنعي الغزل النسيج رقم (1) و(2) والاكتفاء بالعمل بمصنع فقط وعمل وردية واحدة للعمالة وإنتاج نفس الكميات التي كان ينتجها المصنعين مع توفير تكاليف الغاز والكهرباء وسيارات النقل حيث أدت هذه الإجراءات إلى خفض خسائر الشركة من 320 مليون جنيه إلى 180 مليون جنيه نهاية العام الماضي بينهم 60 مليون جنيه تعويضات للعاملين من تاركي الخدمة.
لكن السؤال لماذا تصدر مصر القطن خام للهند وتستورد شركة العامرية من اليونان بالعملة الصعبة؟!
هذه هي مشكلة صناعة النسيج في مصر أنها تنتج قطناً لا تغزله، وصنع قطناً لا تزرعه! والمعادلة الصعبة أن مصر تمتلك أجود أنواع القطن طويل التيلة لكنها لا تمتلك التقنية اللازمة لتحويل هذا المحصول إلى منتجات عالية القيمة لذلك بدأ أصحاب شركات الغزل والنسيج في استيراد قطن الهيرسيوتم متوسط التيلة لرخص سعره، وأصبحت ماكينات الغزل في أغلب المصانع لا تغزل سوى قطن الهيرسيوتم، لكن التطور التقني في الهند استطاع أن يصل لماكينات غزل تنتج جميع أنواع القطن لذا كان إقبال الهند على القطن المصري عظيم.
يخرج القطن المصري خاما ويعود لمصر على هيئة منتجات عالمية "البرندات" ويتخطى سعر القميص ثمن القنطار هذه هي قيمة الصناعة عالية الجودة.
لكن ما العمل إذن؟
لا يجب إهمال القطاع العام.. الدولة يجب أن تعترف أن لكل قطاع مهمته وإن تحقير القطاع العام ومهاجمته واقصاءه أمر ليس سليما، فمجرد السعي وراء المصلحة الخاصة لا يؤدي دائماً إلى الخير العام.
الاهتمام بالتعليم الفني في مجال "كيفية تحويل القطن إلى منتجات" حتى وإن تطلب الأمر الاستعانة بخبراء أجانب في بداية الأمر فأحيانا يجب أن نتعلم من تجارب التاريخ وأن نكرر تجربة محمد علي باشا، ولكن بروح العصر وتقنياته المعقدة.
فمن العيب بلد حضارية مثل مصر أن تكون متخلفة صناعياً وانهيار القطاع العام وصل بنا الحال أن تصبح شركة لإنتاج السجائر تكون ثاني دخل لمصر بعد قناة السويس!
يجب أن يكون لكل مجتمع طريقة في تقرير "أي" السلع يجب أن تنتج، و"كيف" ستصنع هذه السلع و"لمن" ستنتج. مثال بسيط: وزراة التربية والتعليم عدد طلابها اقترب من 25 مليونا، عند تطبيق الزي المدرسي يحتاج الطلاب على الأقل سنوياً 100 مليون قطعة ملابس بمعدل 4 قطع لكل طالب للعام الدراسي(2 بنطلون، 1قميص صيفي +1 قميص شتوي) ويمكن تطبيق ذلك بصورة منظمة من خلال عمل قاعدة بيانات لكل مديرية تعليمية موضحاً بيانات الطالب (الاسم – السن – الطول – العنوان – رقم الهاتف، إلخ..) ويصل للطالب الزي المدرسي للمنزل قبل بداية العام الدراسي ويكون مطابقا للمواصفات العالمية ذات جودة عالية تحقق كرامة الطالب المصري وكونه يرتدي قميصا مكتوب عليه "صنع في مصر"، هذا يكفي لتحقيق الثقة بالنفس والاعتزاز بهذا الوطن وهنا يتكلم القطن مصري.