«فين أمهات زمان؟».. شبح التضحيات يلاحق أمهات الحاضر

تعيش أمهات الحاضر حربًا لا يعلم عنها أحد شيئًا حول إثبات عدم صحة نظرية أنهن أقل كفاءة من جيل أمهات زمان. «فين أمهات زمان؟» شعار يتصدر دائمًا قائمة الردود على أي أم في وقتنا الحاضر تشتكي من تعب وإرهاق رعاية أطفالها، وتطلب إشراك زوجها على سبيل المثال في المسؤولية، هذه المقارنة التي تبخس حق أمهات الحاضر مقابل شعارات زائفة تمجد من تضحيات سرقت عمر الأمهات قديمًا، بل وتستمر في سرقة أعمار النساء حديثًا.

تعاني النساء عند بدء رحلتهن مع الأمومة سواء قديمًا أو حديثًا من حصر دورها واحتياجاتها في كونها أصبحت أم، حتى في الرعاية الصحية المقدمة لها بعد الولادة على سبيل المثال، تقدم لها شرط رعايتها للطفل المولود، يحرص الجميع على حشو فمها بالمأكولات والمشروبات التي تزيد من إدرار اللبن في ثدييها، وإعطائها فرصة للنوم لدقائق معدودة حتى تستطيع أن تصل الليل بالنهار لليوم التالي، ولا يرى أحد غضاضة في ذلك.  تعيش حديثات الأمومة تلك الأيام المعدودة من الرعاية المكثفة حتى يطمئن الجميع على تعافيها المؤقت لتبدأ رحلة الأمومة الفردية، تلك الرحلة التي تحاوطها المخاوف من الفشل والألم والشعور بالذنب، والمقارنة الحتمية التي أصبحت من نصيب أمهات الحاضر اليوم وحدهن أمام شبح التضحيات التي تطاردهن دومًا وإلا لن تنال أبدًا شرف التشبه بأمهات زمان.

يتوقع المجتمع من الأمهات قدرات خارقة في رعاية أطفالهن منذ اليوم الأول، يصور الجميع أن هذه القدرات تخلق بها الأنثى بشكل فطري، ويشكك في تلك الفطرة إذا قابلت النساء هذه المسئولية بمشاعر من الخوف أو القليل من الشكوى، متهمينها بخلل في فطرتها وتخلفها عن ركب أمهات زمان، هذا الهجوم المستمر على أي أم تعبر عن مشاعرها حرمهن من هذا الحق، بل ستجد الأمهات أنفسهن يرددن هذه الشعارات ويتنافسن على المركز الأول في الإيثار وإنكار الذات واحتياجاته، حتى خلقت تلك الفجوة الكبيرة بين ما تشعر به الأمهات حقًا بداخلها وما تسمعه أو ما يعبر عنه المجتمع عن المعنى وراء الأمومة، وشكلها وحدود قدراتها.

هذا التنميط الصارخ للأمومة وربطها بشبح قديم لا نعلم عنه شيئا غير ما نراه اليوم على أجساد أمهاتنا من أمراض مزمنة وحياة مفرغة من أية اهتمامات خاصة، تدور حياتهن حول حياة أبنائهن واستكمال مسيرة التضحيات التي لا تنتهي، يحاصر حياة أمهات الحاضر ليخلق شبحهن الخاص، بشكل مختلف ومستويات من التضحيات متفاوتة، حتى أصبح اليوم جروب الماميز هو رمز للهلع والهرولة للوصول إلى المثالية في كل شيء. 

استخدام المجتمع الشعور بالذنب كسلاح لضمان استمرار الصراع بين الأمومة وأشباحها كما أسمتها إيمان مرسال في كتابها، وفي حديثها عن ملامح الأمومة المحددة قديمًا وحديثًا وكيف تقبلناها في بعض الأحيان بوسم من الإيثار والتضحية وفي آن آخر صراع وجود، استمرت الأمهات في الدفاع عن أنفسهن طيلة الزمان وإثبات قدراتهن الخارقة والحديث عن حب التضحية التي خلقن عليه، لا لسبب غير شعورهن بالذنب، تصحو الأمهات حول العالم بلغات مختلفة بداخلهن شعور بالحزن على أطفالهن غير المحظوظين لكونهم أبنائها، فهي أم مقصرة مهما فعلت ومهما قدمت، أو إذا تخلت عن هذه المرآة اليومية ستجد المجتمع ذاته يلومها على تقصيرها في حق نفسها ومستقبلها وكيف تهاونت في حقها مقابل دور ثانوي في حياتها، لتدور الحلقة سريعًا وتهرول معها الأمهات حتى تلحق بالركب، ركب الأمهات وفطرتهن وركب الرأسمالية وأنيابها.

ما تعانيه النساء اليوم من داخلهن وخارجهن قد ينحصر في مجموعة أسباب منها المجتمعات المتباعدة التي أصبحت لعنة تصيب الأسر الصغيرة في بداية حياتهم، بعد أن كانت الأم تنال الرعاية المستمرة لها ولأطفالها والمساندة والمؤازرة من كل أفراد العائلة الكبيرة حتى يصبح الحمل عليها أخف، أصبحت أمهات الحاضر تعاني من الوحدة وتباعد المسافات بينها وبين أول شخص يستطيع أن يقدم لها يد العون، كما نالت الأمهات حديثًا نصيبها من التطور، أصبح الصراع خارج المنزل في تنافس بينها وبين شريكات الركب الحديث، يتنافسن على عدد الألعاب الرياضية والدروس الخصوصية واللغات التي ينطق لسان أطفالهن بها.

لا تحظى النساء اليوم بأية فرصة للاختيارات العادية، كل التفاصيل أصبحت معقدة وصولًا للوجبة التي يتناولها الطفل داخل المدرسة، كذلك الصورة الذاتية عن النساء الناجحة والتي تضغط عليهن للمحاربة على أكثر من جبهة حتى تصبح زوجة مثالية جميلة ومهتمة بنفسها، وأم مثالية لا تختلف شيئاً عن أمهات زمان، وعن سيدة ناجحة تعمل وتحقق لنفسها تمكينها اقتصاديًا وإعفاء كل المجتمع وكل أبطال حكايتها من المسؤولية في كل ذلك. 

كل هذا الصراع الذي تعانيه النساء حديثًا قد يجعلهن يتفوقن على أمهات زمان، صار السباق أسرع وأشد حدة ومازلنا في مقارنة مع الماضي، ومازال الماضي يتفوق علينا لا لشيء إلا لضمان استمرار أشباح الأمومة في مطاردتنا، واستنزاف قدرات أمهات الحاضر حالمات أن يتوقف تهديدهن بشعار «فين أمهات زمان؟».

لم أعرف يومًا أن كل هذه الأفكار قد تدور برأسي عند حديثي عن الأمومة، قد تخوفت من حصولي على اللقب وسط شريكاتي في الركب الحديث، فأمهات الحاضر واللاتي قد أكون يومًا منهن قد تلام إحداهن لعدم قدرتها على الطيران.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة