قلبي طيارة ورق (١)
الهدف الرئيسي من تلك الكتابة بسيط للغاية وأناني للغاية. أكتب لنفسي، هذا كل ما في الأمر.
أكتب لنسختي المستقبلية التي ستنسى التفاصيل الصغيرة. رائحة الجو، خوف التجربة، متعة التحدي، سأنسى شعور أول مرة، وكانت تلك أول مرة لكل شيء في تلك الرحلة بالنسبة لي.
التجارب الأولى في كل شيء مميزة، تصنعنا كلحظة الميلاد الأولى، تخلق روابط بين نفوسنا وبين أشياء وعادات وروائح وأمزجة، من دون أن نجد تفسيرًا منطقيًا ربما لها في المستقبل، لأننا في الغالب ننسى. ستنسى المشاعر واللحظات التي صنعت بشكل أو بآخر نسختها الجديدة، وربما تتوقف عند بعض المحطات تراقب نفسها وتتسائل كيف أصبحت هكذا؟! كما تفعل الآن، لأنك نسيت التفاصيل الصغيرة في تجارب الماضي، تلك التي تصنعنا بقدر ما نصنعها.
لهذا كله أكتب. إذًا فلنفسي المستقبلية التي تظن أنها تجهل ما فعلته اليوم، وربما أيضًا لمن ساقته الأقدار نفسها لدروب مشابهة فيقارن ويتذكر تجربته الخاصة الفريدة، بالألم والمتعة.
والأهم ربما أني أكتب لتلك الفتاة التي طالما تمنت لو تسافر يومًا وحدها وكانت تظن ذلك مستحيلًا، «فتاة شرقية مسلمة تسافر وتبيت ليلتها من دون أهل أو زوج. هذا مستحيل»، هكذا كنت أقول لنفسي منذ عشرين عامًا وأنا مراهقة تحلم أن تسافر لأي مكان بمفردها ولو لليلة واحدة، وتلك هي العبارات نفسها التي قالتها لي أمي أول مرة قلت لها أني سأسافر للقاهرة للعمل يوم واحد ولن أبيت حتى ليلتي.
ثم ببعض المعارك والكثير من الإصرار والجدل سافرت أيامًا للقاهرة ورجعت، وسكنت في شقة هناك بمفردي واشتريت أثاثها القديم بنفسي من أسواق المستعمل، ركبت القطارات وعربات النقل وحتى «التريسيكل» بمفردي، ودارت بي رحلتي ما دارت فركبت عربات الترحيلات ومدرعة مكافحة الإرهاب وسيارات الشرطة على اختلاف أنواعها بمفردي. وركبت سيارة الإسعاف أيضًا بمفردي.
ومع الوقت أصبحت أتجول لأي مكان أريد وأبات ليلتي في أية فندق أجد، تارة آمنة في مناطق هادئة، وتارة قلقة وسط عيون مترقبة لجسدي، لكني عرفت أني أستطيع، أن أسافر وأعيش بمفردي في أي مكان، تصاحبني في الرحلة نفسي أينما كنت.
خطوات وانتصارات أفتخر بنفسي في اللحظة الحالية لأني فعلتها، أدرك جيدًا حجم الثمن الذي دفعته في المقابل، كل خسارة كانت كبيرة لكني كنت أقبلها طالما كانت ثمنًا لحريتي. لا أعتقد أنه هناك ما يسمى بالثمن العادل، لكن مع الوقت تتعلم أنه لا مكسب من دون خسائر، وتتعلم أيضًا أن تختار مكاسبك وخسائرك على حد سواء.
وأخيرًا ركبت الطائرة. لا أدرى ربما في المرة المقبلة أركب سفينة لرحلة بحرية طويلة نحو أرض بعيدة مجهولة كما أحلم، أو حتى أتمكن ربما من ركوب سفينة فضاء والتلويح للأرض من أعلى والنظر إلى باقي الكون الواسع، لكن الآن سأستمتع بركوب الطائرة، ومن يعرف ماذا بعدها؟
مطار وطائرة وخطوات نحو المجهول
ودعت أبي وأخي عند بوابة مطار برج العرب، مخاوف كثيرة تتردد في يد أخي التي أمسكت بكف يدي طيلة الطريق، كان يخشى فراقي مرة ثانية ولا يعلم تحديدًا لكم من الوقت كنت سأغيب، ولسنا حتى متأكدين من وجهتي.
نعم حجزت التذكرة وأعرف أنه من المفترض أن أتوجه إلى برلين- ألمانيا بعد ترانزيت قصير في مطار أسطنبول- تركيا، وحجزت أيضًا تذاكر عودتي. لكن رغم هذا من يعلم إلى أين أذهب أو إلى متى يطول الفراق!
كانت مخاوفنا الكبرى تنصب على لحظة تجاوز «الجوازات»، قانونًا لست ممنوعة من السفر، لكن أيضًا من يهتم بالأوراق والقانون! المنع من السفر ربما لم يكن التخوف الوحيد، بل كان يتردد في ذهني ذكرى دخولي سجن القناطر أول مرة، حين سألتني السجانة «أنتِ السياسية اللي ممسوكة من المطار؟»، أجبت بالنفي، ثم سألتها من التي تم اعتقالها من المطار؟ فالتفتت لي لكن فضولها لم يجعلها تخترق أوامر مباشرة بعدم التحدث لي، فنظرت إلى الأرض وصمتت.
وكنت أتخيل أني ربما هذه المرة سأهز رأسي بالإيجاب على سؤالها لو تكرر!
الآن تمكنت من ركوب السحاب كما يركب الفارس مهرة حرة في الغابات، وعبرت البحار من دون أن أبتل. الآن أستطيع أن أقول أني حرة بالكامل.
صحيح أن الإنسان مقيد بنفسه يصاحبها أينما ذهب، وماضيه يلحق حاضره ويسابق مستقبله، لكن مع الوقت يعتاد السير على ثلاثة أرجل، فلا عرقلة ولا عرجاء مشيته.
يموج البشر باختلافاتهم بين البلدان، يعودون في لحظة فوق الحدود التي صنعوها بأيديهم، فوق حدود الأرض والعرق والجنس والوطن. خلال دخول الطائرة تعود البشرية للحظة طبيعية، لا خلافات أو صراعات، ورجاء سري كحلقات ذكر خفية تدعو للنجاة والبقاء.
أنا تلك الفتاة الشرقية المسلمة العذراء المعتقلة السابقة المدافعة عن الحرية، عن الإنسان، عن الحياة. كل هذا في لحظة يصبح أمرًا عاديًا مميزًا جدا في الآن ذاته.
تمضي الخطوات نحو مقعد محدد سابقًا، تنظيم يساعدنا للوصول لوجهتنا. لا أحكام في الرحلة، لا أحكام بين البشر فقط أمنيات خافتة للوصول سالمين. ألم يكن يفترض برحلة الحياة أن تكون على نفس الشاكلة؟
الاختلاف المبهج العملاق الذي وجدت عليه الطبيعة حاول الإنسان بغروره تقزيمه بخلق حواجز وحدود، بتقسيمه لمجموعات وفئات، وتحديده وتلوينه درجات، الإنسان المهووس بالتحكم، وبمبارزة قدرة الطبيعة على التحرر.
لم يكن مقعدي بجوار النافذة لكني لمحت السماء والسحاب من طرف الشباك المقابل لي، لحظة صعود الطائرة مخترقة الهواء وضوضائها المنتشرة ركزت انتباهي على قدرة البشر الرائعة وقوتهم التي تتجاوز حدود المكان واللحظة.
الناس يبدون أكثر طبيعية، النساء أكثر راحة، لا خجل من بشريتهن. الأغلبية تتعامل مع بشريتها بأريحية وصدق أكثر مما نفعل.
تشعر أن هناك خجلًا من كوننا بشر ومن كوننا نساء يسكن فينا من لحظة الميلاد في الشرق، أن تكون شرقيًا هو أمر يجعلك بشكل ما ترث شعورًا خفيًا بالخزي، خزي ليس مرتبط بكونك شرقيًا بالعكس هو مدفوع بكونك إنسان بالأساس، فعليك أن تبدأ تخفف شعورك بإنسانيتك، أغلب مشاعرك عليك التعود على إخفائها، بعض احتياجاتك الأساسية عليك أن تتعلم كيف تدفنها عميقًا في صدرك، وأفكارك راقبها جيدًا وخاف من عواقب وخيمة إذا حررتها.
وإذا كنت شرقيًا ومتبوعًا بتاء مربوطة، إذًا أنتِ أنثى. فعليك أن تخجلي من كونك أنثى، حرفيًا، كأنه عار ما أن جسدك اكتملت أعضائه بالداخل ولم يبرز سوى نهداكِ اللذين سيشبعان بـ«حلقة» طول فترة حياتك في الشرق.
كل هذا وغيره عبء يوضع على صدورنا وظهورنا، يبدو لعيني أنه ليس موجود في هؤلاء البشر الذين يشاركونني المقاعد في الطائرة. لديهن معاناتهن الخاصة بالطبع، لكن ليس لديهن هذه الحدبة التي تنمو على ظهورنا لحظة ميلادنا.
خطوة أولى نحو شهور في بلد غريبة، أوثقها وأحكيها كما تراها عيني، عين أنثى من الشرق تحمل حدبات وندوب.