لؤلؤة وأخواتها.. مراهقة الأيتام والتعامل معها

لم أتذكر كيف ومتى تعلمت أن أتعامل مع بنت صغيرة في السن، تقريبًا في سن المراهقة، وها أنا أنطقها بلساني سن المراهقة، فأنا بالنسبة لي سن المراهقة هو أمس، ولا أتذكر كيف ذهب هكذا بين ليلة وضحاها! لربما كنا في هذا السن نريد بلوغ السماء سريعًا، و لكني أتذكر كيف احتضنوني من هم في سن الرشد وكيف كان شكل النصيحة وكيف كانوا يسقونها لي.

لم يعلمني أحد كيف أكون راشدة، لكن تعلمت بالوقوع والممارسة، وكان لدي من وجهتني في بداية حياتي وكانت سر نجاتي وانفتاحي، و كانت من آل راشد، يمكن لهذا الرشد أن يصيب عقولنا في سن صغير ونجد أنفسنا ونحن بالعشرينات و الثلاثينات في خبرة العواجيز، في خبرة من هم في مرحلة الوهن.

فما فائدة البلوغ والرشد دون أن يكون لديك مسئولية؟ الحرية مسئوليتها كبيره بالنسبة الي الفرد والنضج وتكوين الشخصية هي مسئولية كل فرد لنفسه، ولكن أنا هنا أتحدث عن مسئولية الفرد للفرد الآخر، كيف لي أتعلم الدرس وحدي دون أن أمرره لغيري؟ كيف لي أن اخذ ولا أعطي؟ فأنا لم أشعر بفائدة ما فعله اي شخص معي من حب ودعم ورعاية في سن كنت أحتاج فيه إلي الرعاية إلي أن قابلتها.

مرت على عيني في ثوان صغيرة كل ملامح ذكريات سنيني من إعدادي وثانوي حتى تخرجت من الجامعة، وعملت قبل التخرج وأنا في آخر سنة من الكلية، فعندما رأيتها ذكرتني بكل ذلك لأنها كانت مثلي، وهنا سأضع لها اسمًا مستعارًا حتى أتجنب حساسيتها لقولي وحبي لها أيضًا، لؤلؤة، وهي فعلًا مثل اللؤلؤ براقة، في سن صغير جاءت لتعمل في معرض للفنون كعامله نظافة، كان عمرها أقل من ١٨ عامًا، كانت عملت في فقط في حضانة من قبل، وهي تدرس تكنولوجيا المعلومات في أحد المعاهد الخاصة، وكانت تريد أن تجد بجانب دراستها أي مصدر للرزق حتى تستطيع أن تشتري كل ما يتمناه من هم في سنها، وأيضًا كانت طريقة من الطرق للتملص من وجودها طوال الوقت في دار الأيتام التي ترعرعت بها.

كنت وقتها مديرة هذا المعرض، ولم أفكر كثيرًا وأعطيتها العمل من أول يوم، وكنا كل صباح بعدما أفتح المعرض وتأتي هي بعد أول نصف ساعة نتحدث عن الدار وكيف أصبح هو بيتها، قالت إنها به منذ كان عمرها ثلاث سنوات، وكانت لا تتذكر شيئًا عن أبويها، حيث وجدوها في الملاهي تائهة، وأن الدار كانت تقوم كل سنة بعمل نشرة في الصحف بصورتها ربما يراها أحد ويتعرف عليها وتعود مرة أخرى إلى والديها.

لم يحدث هذا، ومر أكثر من ١٤ عامًا ولم يسأل أو يتصل أحد. أخبرتني أنها قالت لهم في الدار منذ ٣ سنوات – أي كان عمرها ١٤ عامًا تقريبًا – إنها لا تريد أن توضع صورتها في الجرائد مرة أخرى، وأنها لا تعرف أهلها وحتى لو ظهروا فهي لا تريد أن تعيش معهم، وأن أخواتها في الدار هم فقط العائلة التي تعرفها. لا أعلم يومها كيف تمكنت دموعي من الاختباء وراء جفني، ربما لأنني خفت من منحها سببًا آخر للتعاسة في هذه اللحظة، ولكن تمنيت فقط في هذا الوقت أن تعتبرني أختًا بالنسبة إليها، يمكن أن يضع الله في يدي شيئًا من المحبة أو الدعم أو أي صفة صغيره أو كبيرة يمكن أن تشعرها ببعض الأمان في هذه الحياة.

مرت سنتان على عملها معي، وأصبحت بالفعل أختًا وصديقة مقربة، تبنيتها من كل قلبي حتى لا تلجأ للحكي لشخص غيري يطمع فيها، وهو ما حدث بالفعل. كان يعمل معنا شخصًا غير ظريف تمامًا، عرف بالنسبة لكل بنات الدار بأنه متحرش، وكان دائما يسمعهن كلامًا غير محبب وفيه إيحاءات، وكانت هي لا تعمل وحدها، حيث كانت هناك أخريات يأتين من نفس الدار لنفس العمل، ولم ألحظ يومًا قذارة هذا الرجل، وفي يوم أبلغت بنت من البنات إدارة الدار بما قاله لها هذا الموظف، ومنعوا كل البنات من الذهاب إلى هذا العمل مره أخرى.

مرت أيام ثم أسبوع ولم أر لؤلؤة، وأسمع كلامًا كثيرًا غير مكتمل كل يوم من أخواتها في الدار ممن كن يعملن في أماكن أخرى بجوارنا، وكن اعتدن المرور على لؤلؤة صباحًا ووقت الغداء لتبليغها بموعد الغداء بالدار حتى لا يفوتهن جميعًا.

فاض بي الكيل هذا اليوم، ووجدت نفسي مثل أي ولية أمر ذاهبة إلى مدير الدار أسال عنه، أين هي وماذا حدث؟! وجلست بالفعل هذا اليوم في مكتب المدير أستمع لكلامه وكلام المشرفة والبنت التي أبلغت بحادثة التحرش، وأنهم خافوا على لؤلؤة هي الأخرى من أن تكون تعرضت لنفس الفعل وفضلت السكوت على أن لا تعمل مرة أخرى وتترك المكان، وأنا كنت أقول للمشرفة: «أنا بكون موجودة طول الوقت من أول لما البنت بتوصل لحد ما تروح الدار، مش بتغيب عن عيني لحظة»، وإنه حتى وإذا حدث مثل هذا الأمر كانت ستخبرني فهي لا تخفي أي شيء عني، وردت المشرفة بقول صدمني، وهو إنهم لا يعلمون بأن لؤلؤة كانت تعمل بالنظافة، وأنه من قواعد الدار ألا تعمل البنات بالنظافة، وأنها أخبرتهم أنها تعمل كمساعدة لي.

يومها أدركت أن رجوع لؤلؤة للعمل مستحيل، وقمنا بإبلاغ أصحاب المعرض بحادثة التحرش من الموظف الذي كان في المكان، ولكن للأسف لم يأخذ جزاءه حتى الآن، وبعد أشهر أغلق المعرض تمامًا.

ولم تنقطع علاقتي بلؤلؤة حتى الآن، هي تخرجت من الجامعة وتريد أن تصبح موديل وتعمل جاهده لتحقيق ذلك، فبمساعدة أخواتها في الدار وكاميرا موبيل صغير كانت تحاول تقليد الموديلز منذ كان عمرها ١٢ عامًا، وحقيقي إذا رأى أحدًا صورها لا يمكن أن يفرق بينها وبين الموديلز الحقيقين. كما تتمنى أن تلتحق بكورس لغة إنجليزية، ولكن عملها غير الدائم وغير المستقر يجعلها غير قادرة على الالتزام بكورس، فتحاول أن تعلم نفسها بنفسها.

كانت آخر أمنياتها لهذا العام أن يكون لديها منزل، وأن تكون قادرة على دفع إيجاره، لأنها تخشى أن تترك الدار وتمضي على ورقة الإخلاء ثم تتعثر في حياتها ولا تستطيع الرجوع له مرة أخرى، كما قالت لي مرة: «أهو يعتبر بيت بردو، بعرف أنام وأتغطى وأكل لكن الشارع وحش».

كيف هي حياة اليتيم غير أنه يعيش حياته في عدم أمان طوال الوقت وفي دائرة واسعة من الوحدة؟ فأنا أرى حياته هي أن يبدأ سن بلوغه ورشده في عمر طفولته، في نغمة صوته وهو يحكي ويتمنى ما لا يقدر، في نظرته للأمور وحساسيته طوال الوقت نسبة إلي وضعه، فكيف على إنسان يمكن يعيش الآن من غير فرد منهم في حياته؟

في الحقيقة هي ليست سهلة لكن جميلة ومصدر قوي للإنسانية والنجاح، حتى وإن فشلت في كل شيء آخر، صاحبهم صادقهم فهذا أضعف الإيمان الذي يمكنك أن تفعله لهم، مرر الحب والدعم والنصيحة لكن لمن يستحقها، فهم في أشد الاحتياج لهذا.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة