مائدة جدتي

في إحدي الجروبات الخاصه بالسوشيال ميديا، أجمع الكثيرون علي أن إفطار اليوم الأول من رمضان سيكون “محشي وبط”، لترن بأذني كلمة صديقتي بالعمل وهي تتحدث عن وليمة رمضان، التي تعدها كل عام “ستكون بالطبه محشي وبط”.

 في الحقيقة ما يثير الفضول في ذهني، هو عادات رمضان التي اندثرت، أو أوشكت علي الاختفاء، أتذكر منزل جدي القديم وأحداث إفطار أول يوم رمضان، كانت الطاولة تمتلئ بخيرات الله من أصناف عدة، ودائما يكون الضيف الأساسي علي سفرة جدي هو المحشي والبط أو الرومي في بعض الأحيان.

 في الأغلب، الدافع الذي يجعلني أكتب هذه المقال الأن هو احساسي بالجوع، لذا وجب التنويه إذا كنت ستقرا مقالتي قبل الإفطار فأنا أعتذرمنك مقدما، اذا أشعلت بداخلك شعورا بالجوع.

 من أجل اعداد مائدة جدي، كانت جدتي تعد لنا الطعام، ورغم كبر عائلتنا إلا أنها في هذا اليوم لا تغفل عن رغبات أحد منا، سواء كان كبير أم صغير، تسائلت كثيرا كيف تستطيع أن تعد مائدة هكذا، لهذا العدد، هي و ابنتها الصغيرة فقط، لتجيب هي علي بمنتهي الحب “أتعب كثيرا حتي أني أستريح بالسرير يومين كاملين بعد هذا اليوم، لكن يذهب هذا التعب والوهن حين أري جمعكم ولهفة كلا منكم علي المائدة، متسائلا عن الصنف المحبب له، رغم أني أعترف أنكم رحيمين بي جدا، ولا تبالغون في طلباتكم، تجتمعون علي عدة أصناف فقط”.

 كانت جدتي تتحدث بحب، جدتي رغم كبر سنها ورغم انتشار ظاهرة المخابز ومصانع الحلويات الكبيرة و اختراعات الحلويات المتعددة، إلا أنها كانت تصر على أن تصنع حلوى رمضان بنفسها، كنا نجد دائما أن الحلوى التي تصنعها جدتي هي الأكثر جمالا مما نبتاعه من الخارج، حتي أنني  قد حاولت أكثر من مرة أن أقنعها أن نتشارك بمشروع لتجهيز وبيع الطعام، لكنها كانت ترفض قائلة “بركة ربنا بتخلي أكلي حلو، عشان بعمله ليكوا”، لتعلمني جدتي أن جملة “صنع بحب”، التي نتداولها جميعا الأن فيما بيننا كانت أصلها “صنع جدتي”.

 كانت جدتي تأبى في الأعياد أن نشتري “الكحك والبسكويت” من المخابز، وكنا نخبزه في البيت، تلتف فتيات العائلة حول الطاولة المستديرة ” طبليه “، كل منا يقوم بمهمة محددة.  أحدنا تضبط معايير الطحين، والأخري تسكب اللبن بمعيار لا نعلم عنه شيئا، تقدره جدتي بالنظر، أو بمعيار يدها، لم نرث عنها مقادير لأي من الطبخات التي تميزت بها، حتي أنني عندما بدأت الطبخ بمطبخي الخاص، لم أستطع تحديد مقادير، لقد كبرت وأصبح لدي معياري الخاص.

 رغم أن جميع وصفات جدتي نعلم مكوناتها، إلا أن العنصر الأهم في الطبخ لم نستطع أن نصنعه، فهو حب جدتي، أذكر أول أيام رمضان، عقب وفاة جدتي أننا اجتمعنا بمنزلها حول جدي، نمارس طقس تجمعنا حول المائدة، وقامت ابنتها بصنع كل أصنافها المعتادة، حتي أن المحشي والبط كان حاضرا علي المائدة.

 إلا أننا في هذا اليوم لم نتذكر سوا غيابها، اختلفت عاداتنا بعد مغادرتها، أصبحنا نبتاع الحلوى من المخابز والمحلات التجارية، اصبحنا نشاهد التلفاز وصغارنا يطالعون الهواتف، أعتقد أن السر كان روح جدتي، ولكني الأن أخشي علي أطفالي عندما يكبرون، أن تندثر فكرة التجمع العائلي الرمضاني بأول أيام رمضان.

 أخشي أن تندثر هذه الثقافة كغيرها، قد اعترفت لكم من قبل أنني أسكن احدى المدن الجديدة، بالتحديد التجمع الخامس، يمكنني أن أقول لكم بملء فمي أن رمضان الذي عهدته بمنزل جدتي القديم باحدى المناطق الشعبية، لم يأتي إلي هنا، أذكر ايضا لعب الأطفال أمام المنازل بالفوانيس وأغاني رمضان. أذكر جدي وهو يصنع لنا مشروب العرقسوس الذي لم أحبه أبدا، وكانت جدتي تصنع التمر، وعندما نعترض ان لونه مختلف عن الذي يسير به الرجل مناديا قبل الإفطار، كانت ترد جدتي بمنتهي العفوية والجمال “ده كله ألوان ،لكن بتاعي أحلي بكتير”.

 أيضا أتذكر طبق الحلوي من كنافة وقطايف وحلويات شرقية، ينتقل بين الجيران، وأذكر أطفال الشارع وهم يعلقون الزينة والكشافات، حتي أننا كنا نصنع نموذج مصغر علي شكل مسجد أو كعبة، كان كل شارع بحي منزلي القديم، يتباهي بزينات رمضان التي نتفنن بصنعها.

 كانت أجواء رمضان تختلف عندما كنا صغارا، حتي مشهد جدي وهو يؤم بنا للصلاة عقب الافطار، ونحن نتسابق حتي لا يبدأ الصلاة من دون أحدنا.

كم أتمني أن تعود ليالي رمضان كما عهدتها وأنا صغيرة، حتي المحتوى الرمضاني المقدم من قبل التلفزيون كان يشبهنا، يشبه حياتنا في هذا الوقت، كنا ننتظر “ألف ليلة وليلة” و”فوازير شريهان” و مسلسل نجتمع عليه جميعا، كنا نشعر بحالة من الود والايمان والرحمة، نفتقدها الأن رغم كل مبهجات الحياة والمتع المتاحة الأن، من خيم رمضانية و احتفالات يومية في أماكن تصنف 5 نجوم، ومسلسلات لا تنتهي، و برامج بتقنيات عالية، الا أنني أتمني معايشة يوما واحدا من ليالي رمضان التي عهدتها بمنزل جدتي، حتى وان خلت المائدة من “المحشي والبط”.  

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة