هنا لندن

يوم الجمعة 27 يناير عند منتصف النهار بتوقيت جرينتش كان يومًا سيئًا للغاية، ليس فقط عليَّ أنا فقط ولكن على جيل كامل أو أجيال متلاحقة مازالت تعيش بيننا في كافة دول الشرق الأوسط الناطقة باللغة العربية، حيث أغلقت إذاعة «B.B.C» العربية بشكل نهائي، بنفس الكلمات التي انطلق بها بثها الأول قبل 85 عامًا: «هنا لندن هيئة الإذاعة البريطانية».

أثار هذا الإغلاق موجة من الحنين للماضي «نوستالجيا» وحسرة لدى الكثيرين من سكان المنطقة الذين نشأوا وهم يستمعون إلى «B.B.C» العربية، وكانوا يعتبرونها المصدر الإخباري الرئيسي الموثوق به، فكانت جملة مثل «دي اتقالت في البي بي سي» عندما تقال في أي حديث يتأكد الجميع من صدق المعلومة.

فقد كبر الملايين من سكان منطقة الشرق الأوسط على دقات «بيج بن» مع كل نشرة أخبار تبدأ بالعبارة الشهيرة «هنا لندن» منذ انطلاقها عام 1938، وخلال العقود المتعاقبة عليها كانت الإذاعة ذائعة الصيت  والمصدر الوحيد للخبر الموثوق لدى الجميع، خاصة في أوقات الأزمات والحروب والكوارث، أي معظم الوقت في منطقة مثل منطقتنا التي تكاد لا تخلو من الأزمات. وعلى جانب آخر قدمت «B.B.C» الناطقة بالعربية للعرب أفضل الموسيقى والمواهب العظيمة، وكان بثها موضوعيًا بعيدًا عن التملق والانحيازات.

وفي منطقة مثل منطقتنا، تخضع فيها وسائل الإعلام الوطنية إلى رقابة مشددة ويتم التنكيل والبطش بوسائل الإعلام الخاصة حين تتجاوز الخطوط الحمراء من قبل أنظمة غير ديمقراطية، كانت هذه الإذاعة هي المنفذ الوحيد نحو أخبار مستقلة وموثوقة ومتجردة، وتجلى هذا خلال فترة الربيع العربي، وخاصة في الفترة من 2011 وحتى 2015، وهي سنوات ذروة التغيرات السياسية الجامحة في الشرق الأوسط، وكان ذلك امتدادًا لمسيرة حافلة من العمل الإعلامي المهني أثناء الحروب الكبيرة بالمنطقة، مثل حرب يونيو 1967 وأكتوبر 1973 والحرب الأهلية في لبنان 1975 والاجتياح في 1982، مرورًا بحربي الخليج الأولى والثانية وغيرها العديد من الأحداث الفارقة والمؤثرة بالمنطقة، بالإضافة إلى طرحها دائمًا كل ما يتعلق بالصراع الفلسطيني- الإسرائيلي.

وعلى الجانب الآخر فالقسم العربي لإذاعة «B.B.C» لم يكن مصدرًا لأخبار مهمة وموثوق فيها فقط، فهي أيضًا مثالًا كلاسيكيًا رائعًا عن طريقة توظيف «القوة الناعمة» التي تنشر وتؤكد النفوذ والقيم والمبادىء البريطانية بأسلوب يصعب تعريفه وتحديده. والسؤال هنا كيف أمكن للمملكة المتحدة التخلي طواعية عن أداة بهذه الفعالية والقوة؟ فهل يدركون ماذا خسروا؟! إنها الشيء الوحيد الذي يعرفه الناس والوحيد الذي يذكرونه عن «بريطانيا» - بجانب الدوري الإنجليزي - منذ أجيال عدة، فهل اختارت إنجلترا الإنكماش والانطواء على نفسها في ظل عالم تحول بالفعل لقرية صغيرة وأصبحت منطقة الشرق الأوسط بشعوبها مندمجة ومتفاعلة مع بقية دول العالم؟!

تعتمد هيئة الإذاعة البريطانية في تمويلها على رسوم إلزامية تقدر بنحو 159 جنيه إسترليني، تُقتطع سنويًا من كل أسرة لديها تليفزيون داخل المملكة المتحدة، ولكن في بداية العام الماضي أعلنت وزيرة الثقافة البريطانية «نادين دوريس» عن تجميد المساهمات الشهرية التي يدفعها البريطانيون لمشاهدة قنوات شبكة «B.B.C» لمدة ثلاث سنوات، في تمهيد منها لإلغاء هذه المساهمة بشكل كامل سنة 2027.

وهو القرار الذي سعى له المحافظون منذ عدة سنوات، ومتوقع بجانب إغلاق البث الإذاعي الناطق بالعربية أن يؤدي إلى تغيير جذري في طبيعة عمل الشبكة الإعلامية، التي تُعتبر من بين الأشهر والأكبر في العالم، والمعروفة باستقلاليتها عن الحكومة البريطانية.

وتعد إذاعة «B.B.C» العربية واحدة من عشرة أقسام بلغات أجنبية تم إلغاء إنتاجها الإذاعي، من أبرزها الفارسية والصينية، وذلك في إطار خفض عام لموازنات خدمة بي بي سي العالمية، بهدف توفير نحو 28,5 مليون جنيه إسترليني سنويًا، بما يعادل 32.5 مليون يورو، ما استتبعه فسخ تعاقد ما يقارب 400 موظف، بينهم 130 في القسم العربي فقط.

ومن الواضح أن العالم يواجه أزمة مالية حقيقية عصفت باقتصادات الدول المتقدمة والنامية على حد سواء، وما ترتب عليها من أزمة سيولة نقدية أدت إلى انهيار الكثير من الكيانات المصرفية والاقتصادية، وطالت أيضًا الكيانات الإعلامية.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة