العرض عرضين

حكى لي صديقي النوبي العجوز ونحن نتحرك خفافا في شارع فؤاد بالإسكندرية، كيف كان معرض القاهرة الدولي للكتاب دوما ملتقى عظيما للمثقفين المصريين وغيرهم من العرب والأجانب، وكيف كان حريصا على اقتطاع جزءا من مرتبه طوال العام، فقط ليتمكن من السفر إلى القاهرة، ويشارك في هذا الحدث الجميل، ثم أردف قائلا: “والنبي أنا لا كنت بطيق ثروت عكاشة ولا اللي مشغله، بس المعرض ده كان حاجة حلوة، كان…”

استوقفني هذا الفعل الناقص (كان) عابثا في ذاكرتي، مؤشرا على لقطات عديدة جمعتني بأصدقاء، وكتاب شباب، وكبار، وربما عظماء لم أكن أحلم برؤيتهم، وخصوصا الأب الروحي لجيل كامل من الشعراء وربما أكثر؛ الشاعر الراحل الكبير محمود درويش.

كم كان لمعرض الكتاب جماله ورونقه لسنين عديدة، عندما علمناه مهرجانا ثقافيا كبيرا، نجد على هامش فعالياته سوقا للكتب! وتحديدا عندما كانت القراءة مشاعا في الزمان والمكان!! وكان شراء كتاب لا يمثل عبئا على المواطن، بل إضافة ومتعة، تصنع جسرا بين الواقع والخيال لا غنى عنه.

“عارف، أهو الشارع ده مثلا طول عمره مليان كتب، وتقريبا كنت كل شهر لازم أعدي عليه، واجيب كتاب جديد، وغالبا من عند عمك محمد اللي ع الإمّة ده!” قالها صديقي، وهو يرفع يده ليحيي صاحبه (بائع الكتب)، وعلى وجهه ابتسامة تملؤها السعادة؛ كّنا قد وصلنا إلى شارع النبي دانيال، حيث تستمع إلى الكتب وهي تناديك، وتشتم رائحة عطرها في كل مكان، رغم ما بذلته أنظمة الحكم في مصر من مجهود لتقويض أو القضاء على الأماكن التي تبيع الكتب بأسعار في متناول الجميع، مثل هذا المكان أو (سور الأزبكية) بالقاهرة أو غيرهما على نفس الشاكلة.

قررت أن أبحث في ذاكرتي عن التوقيت الذي تحول فيه معرض الكتاب إلى سوق للكتب تصاحبه الفعاليات، ثم تدريجيا إلى هامش له! وكيف أصبح تجّار الثقافة، هم المسيطرين على المعرض، والمال هو البطل، وعلى الرغم من تفهمي لفكرة (تسليع) الأدب، في عصر غارق في الرأسمالية المشوّهة! فإنني لم أستطع إيجاد الأسباب القاطعة، لكن وضع السؤال يده على كتفي، لعلّي أرى من منظور آخر “كيف تضع شعبا تحت سيطرتك ثم تضمن ألا يخرج عنها؟”

استوقفني هذا النوبي صاحب الوجه الباسم دائما، وقال في هدوء: “انت عارف اللي مزعلني إيه؟ إن الناس بطلت تقريبا تشتري كتب، يعني غير إن حبة منهم بقوا بيقروا PDF وكتب الإلكترونية، الباقي بقوا يستنوا موسم المعرض عشان ينزلوا يشتروا رزمة كتب، تتركن بقيت السنة! ويعملوا الحاجة الأهم طبعا، يتفسحوا وياكلوا كشري! الناس ماباقتش بتدور على المعرفة، الناس بقى همها تاكل وتتبسط بس”.

أكملنا السير حتى وصلنا على مقهى (البن البرازيلي) في شارع صلاح سالم، وهو يتحسر على زمن جميل فات، وزمن أغبر -لا يعلم خاتمته إلا الله- أتى! وأنا أستمع له في صمت، معددا لنفسي أسباب كرهي للمعرض، وكيف أصبح مصدرا لنفوري من بعد ثورة يناير! حتى أنني لم اشارك بإصدار ديوان جديد فيه إلا مرة واحدة خلال كل هذه الفترة، وكانت العام الماضي ٢٠٢٢، وذهبت زيارة واحدة فقط لم أمكث فيها أكثر من ٤ أو ٥ ساعات إجمالا، وكأن روحي تأبى أن تفلت الماضي الجميل، وتغرق في حاضر زيّف الثقافة وجعلها رداء يلبسه الناس من باب العادة والتباهي، فلا يترك أثرا في نفوسهم.

معرض الكتاب الحالي، نسخة مشوهة من الأصل! وزواره صار أغلبهم لا يأبهون بالقراءة، وإذا اشتروا كتابا، كان لزينة أو مجاملة، ولا أظن لحاله إصلاحا إلا إذا تولاه من يرى صدارة نشر الثقافة والإبداع على سوق البيع، وعمل على إعادة المعرض إلى صيغته الأبهى -التي يستخدمها أشقاؤنا من أهل الخليج في معارضهم حاليا- ليصبح مهرجانا ثقافيا حقيقيا، يسعى لحضوره الأدباء من الجوار وما أبعد، نتشارك فيه الإبداع من دون محسوبية ولا علاقات شخصية! وتصبح سوق الكتب جزءا من الحدث لا مهيمنا عليه.

انتهى صديقي العجوز من قهوته، ثم أخبرني أن عليه الذهاب الآن، لأن الرحلة من وسط البلد إلى العجمي، أصعب منها إلى القاهرة في أحيان كثيرة، ثم ضحك ساخرا: “تصدق لو المعرض الأيام دي زي زمان، كنت سافرت القاهرة أسهل، وقضيت كام يوم حلوين، بس تقول إيه بقى! ربنا يعدل المايل”، ثم تركني جالسا وخرج من المقهى في هدوء، وعندما انتهيت أنا الآخر من قهوتي، قررت أن رحلتي في الإسكندرية انتهت اليوم، ومحطة القطار أقرب الآن من حبل الوريد، فخرجت بعد صديقي بدقائق، ومشيت لأصل شارع فؤاد، ثم تعمدت الخروج من شارع النبي دانيال، مشاهدا الكتب وهي تجلس جنبا بجنب مع (الملابس واكسسوارات المحمول)، وأشياء أخرى احتلت من مساحات القراءة، لتصنع مكانا إضافيا لاحتياجات صارت أساسية… ثم وصلت أخيرا إلى ميدان المحطة، لأجد منفذ بيع المنطقة الشمالية أمامي، وصوت أحدهم ينادي في الميكروفون “سعر كيلو اللحمة ١٨٠ جنيه، سعر كيلو البانيه ١٩٠ جنيه!!”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة