أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك، فاغمض عينيك والتفت تراني أمامك. هذه الكلمات الحالمة التي تحمل إرث العمر الذاخر بالإلهام والإبداع هي التي أوصى جبران خليل خبران بأن تكتب على قبره بعد وفاته.
ولد العظيم جبران خليل جبران في السادس من يناير عام 1883، ومن حظي السعيد أنه نفس يوم مولدي، قبل 99 عامًا، أي ثلاثة أجيال بالتمام والكمال، وأظن أن ذلك كان من أسباب ارتباطي الشديد منذ مراهقتي بشعره، وكيف لا يتأثر أحد بشعر جبران وهو من رواد مدرسة شعر المهجر ومؤسس الرابطة القلمية التي بدأت فكرتها عام 1916، وتأسست رسميًا عام 1920 في نيويورك، على يد جبران ونخبة من الأدباء؟ حيث شهد منزل جبران الجلسة الحاسمة لتأسيس الرابطة، وانتخبه المؤسسون عميدًا للرابطة التي تفككت بمجرد موته سنة 1932.
كان جبران يكتب القصائد سواء التفعيلية أو النثرية وكأنه يرسم لوحة فنية متكاملة الأركان، ويتجلى ذلك على سبيل المثال في قصيدته النثرية «في مدينة الأموات»، والتي يتأمل فيها رجل من على تلة مدينة مغطاة بسحابة سوداء، وفي وسط هذه اللوحة جنازتان، إحداهما لرجل غني والأخرى لرجل فقير. كما تجد في قصيدته «الرؤية» عبقرية جبران عندما يصف عصفور منهك من الجوع والعطش، حيث فضاء النص في حقل خصيب على ضفاف نهر، فكان يلمس إحساس القاريء بمجرد وقوع عينيه على الكلمات.
ومن لا يستطيع أن يتأثر وبقوة عندما يسمع جارة القمر وهي تشدو «أعطني الناي وغن فالغنا سر الوجود وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الوجود»، و«سكن الليل وفي ثوب السكون تختبي الأحلام وسع البدر وللبدر عيون ترصد الأيام»، كما غنت ماجدة الرومي لجبران «نشيد المحبة»، وغنت كاميليا جبران «فلسطين»، وغنى له كاظم الساهر قصيدة بالإنجليزية باسم «عن الحب»، فجبران لم يستخدم في كتاباته باللغة العربية الأسلوب العربي التقليدي، وخرج عن هيكلة القصيدة العربية التقليدية، وتأثر بالأسلوب الغربي، ويرجع ذلك إلى عدم مروره بمرحلة تعلم مباديء وأسس كتابة الشعر العربي لعودته من أمريكا إلى مدرسة الحكمة ببيروت وهو في الثانية عشرة من عمره.
وفي بداية الألفية ومع دخولي الجامعة بدأت في قراءة روايات وأدب جبران، وكان لها تأثير كبير في إطلاق العنان لخيالي، وساهمت أفكاره الإنسانية والفلسفية في تكوين شخصيتي بشكل كبير، فأعمال جبران كانت مزيجًا من العلم والأدب والفن والفلسفة، فنجد في مجموعته القصصية «الأرواح المتمردة» التي ناقش عبر قصصها الأربعة - «وردة الهاني» و«صراخ القبور» و«مضجع العروس» و«خليل الكافر» - كيفية تمرد الأرواح على القوانين والعادات والتقاليد القاسية التي تقيد حرية الإنسان، حيث تناول الكثير من المتناقضات في هذه المجموعة القصصية، مثل الشحاذ والغني والملحد والقديس والمجنون والعاقل والمتمرد والمطيع والمظلوم والظالم والساقطة والفاضلة.
وفي مجموعته «عرائس المروج» تناول جبران ثلاث قصص واقعية، الأولى «رماد الأجيال والنار الخالدة»، والثانية «مرتا البانية»، والثالثة «يوحنا المجنون». وفي هذه الفترة كان يعاني جبران من اضطراب نفسي شديد بسبب حزنه على عائلته التي هاجر معها.
وكانت رواية «الأجنحة المتكسرة» أكثر أعمال جبران العربية رومانسية. تتناول الرواية قصة حب مستحيل بين شاب وفتاة تزوجت غصبًا عنها بابن شقيق مطران بلدتها، الذي كان طامعًا في ثروتها، وتعكس هذه الرواية برمزيتها التقاليد التي تقيد المرأة الشرقية، بالإضافة إلى مناقشة أبعاد أخرى للحياة، مثل الكآبة والأمومة والثورة والحب وغيرها.
وفي كتابه «دمعة وابتسامة» جمع جبران مجموعة من المقالات والقصص والقصائد النثرية التي كتبها باللغة العربية، ويعتبر ذلك الكتاب رسالة إنسانية هامة ومؤثرة، حيث يحتوي على تأملاته وأفكاره عن الحياة والمجتمع، وعن تصوراته عن النفس البشرية.
وآخر كتاب أصدره جبران بالعربية كان «العواصف»، وجمع فيه قصيدة «المواكب» ومجموعة مقالات، بينها «حفار القبور» و«العبودية» و«يا بني أمي» و«نحن وأنتم» و«العاصفة» وغيرها.
ثم قرر جبران الكتابة بالإنجليزية، بعدما رأى أن العالم الذي يتكلم الإنجليزية أكبر بكثير من الذي يتكلم العربية. وتفوقت مؤلفات جبران الإنجليزية على العربية، مثل كتابه «السابق»، وكتابه «التائه» الذي تحدث فيه عن أثر اليأس والتشاؤم في النفس البشرية.
ومن أهم ما كتب جبران كتاب «المجنون»، الذي تطرق فيه إلى مشكلة الذات في علاقتها بنفسها وبالآخرين، إذ أوضح رأيه المتمثل في أن الجنون يعد الخطوة الأولى لانعدام الأنانية. وباستخدام لغة تتسم بالحب والتجرد أوضح جبران في كتابه «يسوع ابن الإنسان» رأيه في المسيح بطريقته الخاصة.
وكان كتاب «آلهة الأرض» لجبران في البداية تحت مسمى «ثلاثة»، قبل أن يستقر على اسمه الأخير «آلهة الأرض». ويصور في هذا الكتاب النزعات الثلاث الأساسية في الإنسان، وهي شهوة السلطة، والسعي إلى العدالة في الأحكام، ونشر المحبة، وقدم ذلك في شكل حوار يدور بين ثلاثة آلهة تمثل النزعات المسيطرة على القلب، فالأول يتجه إلى العدم بعد أن ضاق من تكرار مشاهد الحياة، والثاني يستغل سلطانه الذي يمارسه على الناس، والأخير يستنكر لا مبالاة الأول وقوة السلطة عند الثاني، ولذلك يؤمن بأن للحب والجمال دورًا في الوجود.
«النبي» - من وجهة نظري- هو أعظم ما كتب جبران على الإطلاق، وقد اتخذت هذا الكتاب دستورًا لحياتي في كافة نواحيها، لأن فيه كل الحلول، ويجيب عن كافة التساؤلات، وقد بدأ جبران بكتابته باللغة العربية ثم بالإنجليزية، واستمر في الكتابة لمدة خمس سنوات. تميز هذا الكتاب بأفكاره المختبئة والعميقة خلف حقيقة كل عبارة فيه، من علم وأدب وفن وفلسفة وغيرها، وقد ترجم إلى عشرين لغة مختلفة.
وآخر ما كتب العزيز جبران كان كتاب «حديقة النبي»، الذي يعتبر كلمة الوداع الأخيرة له، وتحدث فيه عن علاقة الإنسان مع الطبيعة. لكن الموت كان أسرع من أن يسمح لجبران بإتمام هذا العمل العبقري.
شكرًا جبران على ما أنا عليه..