فرصة ثانية.. ثانيًا محاولة لإيجاد الأجوبة

العدالة التصالحية (1)

في المرة السابقة طرحت فكرة بسيطة للنقاش عبر مجموعة أسئلة، عن المسامحة والمصالحة وإمكانية إعطاء فرص ثانية. طرحت الأمر على سعته في كل المستويات، بدءًا من الفرد والأسرة، ومرورًا بمؤسسات المجتمع المدني وقطاعات الأعمال، وانتهاءً بمستوى الدولة والنظام. جاءتني بعض التعليقات التي اشتبكت مع المسألة سواء على العام أو على الخاص، ومن اللافت للنظر أن الأغلبية التي اشتبكت كانت ترى أهمية النقاش والحديث عن الفرص الثانية، ولم يرفض أي منهم إعطاء فرصة ثانية في مطلقه، إلا أن البعض كان عنده تحفظات، ويرهن الفرصة الثانية بعدة قواعد منطقية إلى حد بعيد.

وعبر عشرات التعليقات يمكننا وضع نوع من أنواع الهيكلة المبدئية لآليات المصالحة والمسامحة، التي يمكننا أن نستخدمها سواء بشكل شخصي في حياتنا أو في معاملاتنا داخل مؤسسات عملنا وعلاقاتنا العملية والمهنية، أو عمومًا في نظرتنا واشتباكها مع القضايا العامة التي تخص الحريات والعدالة والحقوق، التي تتدرج تنازلًا من حقوق الدَم – الضحايا والقتلى في كافة أحداث العنف من كافة الأطراف- مرورًا بالتعذيب الجسدي والنفسي والضرر المادي و المعنوي والمعاملة غير الإنسانية – الاختفاء القسري والاعتقالات السياسية وسجناء الرأي- وانتهاءً بخلاف الرأي والتوجه والصراعات السياسية وتضارب المصالح.

ماذا لو كان المخطئ من شيعتك «شلتك»؟

من وجهة نظري من أبسط وأوضح القواعد في الموازنة هو حديث أنس عن سيدنا الرسول محمد عندما قال رسول الله ﷺ: «انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره إذا كان مظلومًا، أفرأيت إذا كان ظالمًا كيف أنصره؟ قال: تحجزه أو تمنعه من الظلم فإن ذلك نصره»، رواه البخاري.

لكن على أية حال الموضوع ليس بسيطًا كما قد يبدو، فالمسألة أشد حرجًا وخطرًا إذا تعلقت بمسألة أخلاقية كبرى، أو تتعارض بشكل مباشر مع قضية أنت متبنيها للرأي العام إذا كنت من أصحاب الصوت العالي بأي شكل. فلك أن تتخيل مثلًا أن يكرس كاتب مشهور حياته لمناهضة العنف ضد المرأة ثم يرتكب صديقه المقرب جريمة عنف ضد زميلته في العمل مثلًا، ويزداد الأمر سوءًا إذا تم تسليط الأضواء على الانتهاك بشكل كبير من دون مراعاة لحقوق الضحية في حماية نفسها، ومن دون سؤالها عن الطريقة التي تفضل تناول الموضوع بها.

أو إذا كنت حقوقي معروف بدفاعك عن حقوق العمال، وتناضل وتكسب قوتك من وراء تقديم الدعم القانوني والحقوقي لهم، ثم تكتشف أن صديقتك ترتكب أسوأ الانتهاكات في حق العاملين لديها في مؤسستها، ويتم تداول الموضوع أيضًا إعلاميًا، وقد يزداد الأمر سوءًا بتعرض العمال لمواجهات قانونية من صديقتك لحماية سمعتها وتكذيبهم والتلاعب بالحقائق.

أو أن يرتكب صديق طفولتك واقعة اغتصاب أو تحرش، أو أن تكتشف/ي أن ابنك سارق أو قاتل أو يستغل سلطته، أو أن زوجك يرتكب التعذيب، أو أن زوجتك ترتشي وتتسلط على الضعفاء في عملها.

أنواع العدالة وحلول بديلة للقتال

مع أننا نتحدث عن جرائم وأخطاء تتعدد وتختلف درجاتها لكنها تتفق في أمرين فقط، أولًا أنها أخطاء وجرائم بشرية، وثانيًا أنها تسببت بشكل مباشر في أذى لشخص أو أكثر بدرجات وأنواع مختلفة.

وأظن أنه على سعتها، ووفقًا للتعليقات التي شاركتني النقاش أيضًا، فإن الخطوة الأولى التي نقيس عليها الموقف هي مدى اعتراف «المخطئ/ المجرم» نفسه بارتكابه لخطأ أو لجريمة. هذا على حسب الآراء حجر الأساس في كل الحالات، وأظن أنه لا مجال لأي حديث عن تصالح أو إعطاء فرصة ثانية لشخص لم يعترف بالأساس بخطئه!

وماذا لو اعترف بخطئه؟ هنا يجب أن نتحدث عن العدل، والعدل لا يعني بالضرورة إلقاء صاحب الذنب في غياهب السجن، أو توقيع أية عقوبة مادية أو معنوية على الشخص فحسب، لكن العدل له عدة أوجه، واختزاله في العقاب قصور في النظام الحالي على كافة مستوياته حتى الأفراد. وهنا سنفرق بين نوعين من الأخطاء لا يجوز الخلط بينهما، الأخطاء التي لا تستوجب عقوبة قانونية، والأخطاء التي ترتقي للجرائم.

العدالة التصالحية مفهومًا وقواعد

وعليه فإننا نتحدث عن أنواع مختلفة من العدالة، ونبدأ بالعدالة التصالحية. يعرّف «جون برايثوايت» العدالة التصالحية بأنها: عملية يكون فيها لكل أصحاب العلاقة في المظلَمة فرصة مناقشة ما جرى وكيف تأثروا بالجريمة، وتقرير ما يجب أن يُقدَّم لهم بالتعويض. ترى نظرية العدالة التصالحية أنه كما أن الجريمة تؤذي، فالعدل يشفي. وبالتالي فإن المحادثات مع الذين تأذّوا والذين أذوا يجب أن تكون مركزية في العملية.

نعم، قد يكون للمختصين في القانون دور ثانوي في تيسير عملية العدالة التصالحية، ويكون للمواطنين معظم المسؤولية في مداواة الآلام التي سببتها الجريمة. لذا تنقل عملية العدالة التصالحية مسؤولية معالجة الجريمة.

وفي عام 2014، عرّفت «كارولين بويز واتسون» من جامعة «سوفولك» العدالة التصالحية بأنها: حركة اجتماعية نامية لتأسيس أساليب سلمية لمعالجة الأذى، ولحل المشكلات والتعامل مع انتهاكات القانون وحقوق الإنسان.

تتنوع هذه الأساليب من المحاكم السلامية العالمية، كلجنة الحقيقة والمصالحة الإفريقية الجنوبية، إلى ابتكارات في الأنظمة الجنائية وعدل الأحداث والمدارس والخدمات الاجتماعية والمجتمعات.

تُشرك العدالة التصالحية المتأذّين والمعتدين والمجتمع المتأثر في البحث عن الحلول التي تقدّم تعويضًا ومصالحة وإعادة بناء للعلاقات، بدلًا من إشراك القانون والمختصين فيه والحكومة. وتسعى العدالة التصالحية إلى بناء شراكات لإعادة تأسيس المسؤولية المتبادلة للاستجابات البنّاءة للمعتدين في مجتمعاتنا. كما تسعى الأساليب التصالحية إلى مقاربة متوازنة لحاجات الضحية والمعتدي والمجتمع من خلال عمليات تحفظ سلامة الجميع وكرامتهم.

وكم نحن في حاجة ماسة في مصر لهذا النوع من العدالة التصالحية، وإن كنا لسنا أولي سلطة في المستوى الواسع، إلا أننا نملك السلطة داخل مؤسساتنا الصغيرة، والخلافات التي تظهر داخل مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الحقوقية والصحافية، والمستويات التي يتواجد لنا فيها شيء من السلطة، فكلما وقعت جريمة داخل مؤسسة في حق أقليات، أو جريمة عنصرية أو تمييز أو عنف قائم على النوع، أو اضطهاد أو تسلط واستغلال نفوذ، أو سرقة حقوق مالية أو فكرية، نجد نفسنا كأننا أمام إعادة اختراع العجلة.

على الرغم من أن آليات خلق مصالحة وتحقيق العدل متوفرة، وليست بالضرورة نافعة في كافة المواقف، لكن تنوع أدوات وآليات تحقيق العدل ضرورة، وأشير هنا أيضًا لآليات وقواعد استخدام العدالة التصالحية والمباديء الأساسية.

فمن الضروري أن نفكر في سبل تحقيق عدالة مغايرة لما تعودنا عليه في أذهاننا عن تعذيب المجرم وعن الأصفاد والقيود – مع اعتراض أغلبنا على وضع السجون البائس الذي بعدما عرفته اتخذت قرارًا شخصيًا ألا ألقي بأي إنسان فيه مهما كان، فأنا لا أستطيع أن أوافق على تعذيب أي شخص- كما أنه عندي قناعة كاملة أن نظام السجون عندنا من أوله لآخره قائم فقط على فكرة التعذيب بأساليب مختلفة، لا إصلاح فيه ولا عدل.

لذلك قررت أن أتناول عدة أنواع من المصالحة التي يمكننا تطبيقها في وحداتنا المصغرة – شلتنا- مجموعتنا- منظمتنا- أحزابنا.. الخ- حتى يمكننا التمرن ليوم نحتاج فيه للتحدث بشكل واسع عن العدالة الانتقالية للدولة المصرية كلها.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة