ازدواجية الدكتور فوزي! (قصة قصيرة)

محمد عيسى 

لا يبدأ الدكتور فوزي حديثه مع الطلاب إلا بالصلاة على المصطفى، ولا ينهيه معهم إلا بالدعاء لهم ولأولي الأمر وبلاد المسلمين. ظن طلابه في أول مرة حاضرهم فيها أن بدايته وخاتمته بمثابة حمد لله على مصدر رزقه وفشخرته الجديد، الذي لم يأتِ بالساهل، وذلك لأن انتدابه للعمل كمحاضر في كلية الحقوق جاء بعد حصوله على درجة الدكتوراة في القانون الجنائي، ولكن حين تكررتا في كل محاضرة يُلقيها عليهم رجح الطلاب أنهما ليستا تباركًا فحسب، وأن بينه وبين الله عمار.

لم يحافظ الدكتور فوزي على انتدابه للعمل بالدعاء والكلام فقط، وذلك لأن فعله يسبق دائمًا كلامه، فقبل ميعاد محاضرته بربع ساعة ستجده في أنتظار أبنائه الطلاب، ولا تستغرب هنا من كلمة أبنائه، لأنه كثيرًا ما يقول لهم أنه أب لهم وأنهم مثل أبنائه، ولكن هذا لا يعني أنه يحب الدلع والحال المائل، فكما يلتزم بموعد المحاضرة يريد أن يلتزم طلابه هم أيضًا بموعدها، لذلك فعندما يتأخر طالب على المحاضرة ينهره بشدة ويرفض دخوله ويأخذه غياب، وهذا لا يعني أنه لا يتمتع بروح التسامح والعياذ بالله، فحينما يتأخر طالب آخر ابن زميل له أو ابن مستشار، يقابل تأخره عن محاضرته بابتسامة عريضة، راجيًا منه بنبرة هادئة بألا يتأخر عن المحاضرة مرة أخرى، حتى لا تفوته معلومة ربما تكون مفيدة له.

منذ انتداب الدكتور فوزي للعمل كمحاضر في الجامعة؛ بات مؤمنًا بأن الله سخره لإعطاء كل ذي حقٍ حقه، لذلك فأنه يمعن النظر في تقييمه لطلابه ويختبرهم تحريريًا وشفهيًا جيدًا قبل أن يعطيهم درجاتهم على التدريب العملي، ولكن هذا لا يعني أنه لا يجبر بخاطرهم أو أنه يتزمت في منحها لهم تزمت من يقطع من لحمه الحي، فهو يحاول أيضًا أن يكون كريمًا متساهلًا معهم؛ فلا يمكن أبدًا أن يرد سؤال زميل له طلب منه أن يعطي ابنه الدرجة النهائية لأنه ينوى على أن يقدم له في إحدى الهيئات القضائية بعد تخرجه، أو يرد سؤال مستشار طلب منه أن يغض الطرف عن تخلف ابنته عن حضور محاضرة له أو امتحان من امتحاناته.

لم يغير انتداب الدكتور فوزي أيضًا من طبيعة شخصيته، فهو لا يطيق أن يتملقه أحد من الطلاب، وهذا لا يعني أنه لا يتفهم مشاعر طالبة له، حين تنشر له صورة على (الفيسبوك) وهو يتحدث في إحدى القنوات الفضائية مصحوبة بسيل من المديح الذي يثير الغثيان ، فأول ما تقع عينيه على (البوست) لا يتردد في شكرها ورد المديح لها بمديح مماثل كفيل بأن يُجهز على ما تبقى لديك من مقاومة لرغبة جارفة تتملكك حين تقرأ التعليقات لإصدار أصوات مُحشرجة من أنفك لهما.

ومثلما لا يطيق الدكتور فوزي أن يتملقه أحد فهو لا يطيق أيضًا أن يتزلف أو يتودد لأي أحد، حتى لو كان هذا الأحد من ذوي النفوذ أو من إدارة الكلية التي انتدبته، فالأرزاق بيد الله وحده، ولكن هذا لا يعني أنه يتعامل معهم بجفاء أو قلة ذوق أو أنه لا يجاملهم عندما تأتي مناسبة، فستجد دائمًا الدكتور فوزي يهرول صوب أيًا منهم بمجرد أن يلمحه سواء داخل الجامعة أو خارجها لكي يقول في حقه ما تفرزه غدة “النفاق والتطبيل” عنده أمام جميع الحضور، هذا بالطبع ناهيك عن تعليقاته المعسولة التي يكتبها إليهم حين ينشر أحدهم صورة لنفسه على صفحته الشخصية على (الفيسبوك) والتي تكون مشفوعة دائمًا بعبارته الأثيرة ” العلماء ورثة الأنبياء”.

ليس هذا كل ما يفعله الدكتور فوزي حتى يشكر الله على نعمته ويرضي ضميره أمامه، فحين تأتي الامتحانات ويعزو إليه مهمة الإشراف على عدة لجان، وقتها ستنبهر حين ترى أنه فعلًا لا يمكن أن يعرف أبيه فيها، فهو دائمًا ما يردد على مسامع الطلاب وهم في الامتحان حديثًا شريفًا لسيدنا النبي، عليه الصلاة والسلام، يؤمن به أشد الأيمان يقول: “من غشنا فليس منا”، لذلك فهو لا يتردد في سحب ورقة الإجابة من أي طالب سولت إليه نفسه بأن يخل بالنظام العام في لجنة الامتحان، فهذه مسألة ليس عند الدكتور فوزي فيها “يامّه ارحميني”، ولكن هذا لا يعني أنه لا يلتمس للطلاب الأعذار أو أنه لا يقدر التوتر الذي يكون فيه الطلاب، فمهما حدث فهم في نهاية الأمر أساتذة وقضاة المستقبل، لذلك ستجده دائمًا ما يمازح ويطبطب على أولاد زملائه وأولاد المستشارين الموجودين في اللجان، بل ولا يوجد عنده مانع أيضًا في أن يداري عليهم وهم يتبادلون الإجابات أو يتجاذبون أطراف الحديث بشأن سؤال يستعصى عليهم، والأكثر من ذلك فإن شدة حرصه على مستقبل أحدهم قد تدفعه إلى رفضه استلام ورقة إجابة زميل له يجلس بجواره انتهى من الإجابة على أسئلة الامتحان قبل أن يراجع معه ليتأكد من إجاباته التي يشك في صحتها.

عُرف أيضًا الدكتور فوزي في الكلية التي يُحاضر فيها بزهده في السلطة، فبالرغم من السلطات الواسعة الممنوحة له من إدارة الكلية بإعتباره مشرف على اللجان، لم يتعسف الدكتور فوزي في وقتٍ من الأوقات مع أي طالب من الطلاب، ولكن هذا لا يعني أنه من الممكن أن يترك الحبل على الغارب لطالب سليط اللسان يسخر منه حتى ولو كانت سخريته ردًا على سخريته من لهجة طالب ريفي يتحدث بحرف (الـچيم) في مجتمع المدينة، فلا يتوانَ وقتها عن تهذيبه وتكديره عن طريق سحب ورقة الإجابة منه، وإذا سأله الملاحظون في اللجنة عن الحكمة المخفية من وراء تكديره هذا، خاصة وهم يعلمون أن الطالب المُكدر لم يفعل شيئًا سوى السخرية منه حين سخر هو من زميله، يرد على سؤالهم وقتها بنبرة مُربي الأجيال بأن “الأدب فضلوه على العلم”.

ينكر الدكتور فوزي أيضًا ذاته باستمرار، ولكن هذا لا يمنع من باب (الذكرى تنفع المؤمنين) أن ينشر صورة له بعد نهاية كل فصل دراسي على صفحته الشخصية على (الفيسبوك) وهو يتوسط زملاءه المُحاضرين، لكي يهنئ ويمدح نفسه وزملاءه على تفانيهم في العمل، قبل أن يفسح المجال لطلابه وزملائه حتى تتسنى لهم الفرصة لكتابة التعليقات اللزجة التي يأخذها دائماً (اسكرينات) ليرد بها على انتقادات الحاقدين وكيد الكائدين.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة