سياسات وبدائل واشنطن ما قبل “العتبة النووية” الإيرانية

كريم فرحات

ثمة معضلات جمّة أمام مفاوضات فيينا التي تهدف إلى إحياء الاتفاق النووي بين الولايات المتحدة وإيران، لا سيّما في ظل جملة المتغيرات التي حدثت منذ الانسحاب الأحادي للرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” من الاتفاق، ومن ثم القفزات الهائلة التي حققتها طهران في مشروعها النووي، عبر رفع نسبة مستوى تخصيب اليورانيوم لنحو 60 بالمائة، وحظر وصول مفتشي الوكالة الدولية للطاقة الذرية للمواقع النووية، السرية والعلنية، فضلاً عن تعطيل كاميرات المراقبة. وقد أعلنت الوكالة الأممية في تقاريرها الفنية عن اقتراب الملالي من العتبة النووية.

ومن بين المتغيرات الأخرى، التطورات السياسية والإقليمية، التي لها ارتدادات متفاوتة على المسار التفاوضي الدبلوماسي، الذي وصل لنحو ثمان جولات من المحادثات النووية، من دون تحقيق ثمّة نتائج؛ إذ إن النظام في طهران قد انتقل الحكم فيه للجناح المتشدد والراديكالي القريب من المرشد الإيراني علي خامنئي، وهو التيار الذي أضحى يتحكم في مفاصل الدولة، بكافة مؤسساتها وأجهزتها التشريعية والتنفيذية والقضائية، وذلك بعد هزيمة حسن روحاني المحسوب على التيار الإصلاحي والمعتدل في الانتخابات الأخيرة.

يقود الفريق التابع للرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي المفاوضات، بينما يشدد الأخير على موقف خامنئي الذي يشترط “رفع كامل، وليس جزئياً، للعقوبات”، والحصول على ضمانات بعدم انسحاب أمريكا مجدداً.

ويتولى أعضاء من مجلس الأمن القومي الإيراني عملية التفاوض والمحادثات غير المباشرة بين طهران وواشنطن، والمعروف عنهم مواقفهم الصلبة والجامدة تجاه الاتفاق النووي، إذ ارتبطت بهم المفاوضات الفاشلة، بين عامي 2005 و2013، في فترة حكم محمود أحمدي نجاد، ومن بينهم علي باقري خان، وهو كبير المفاوضين النوويين لإيران، راهناً.

ورغم عدم التوصل إلى صيغة تامة ونهائية بخصوص الاتفاق النووي، فإنه من المتوقع تدشين إتفاق مؤقت، مطلع الشهر المقبل، يختلف عن الصورة التي تهدف واشطن تحقيقها، وتحديداً ما يخص تعديل سلوك طهران الإقليمي بنفس درجة التزامها النووي، ووقف دعمها للميلشيات التابعة ل”الحرس الثوري” في سوريا واليمن ولبنان، وكذا الانفتاح على حوار سياسي مع دول الخليج للتهدئة وخفض التصعيد، وأخيراً ضبط الملف الحقوقي بإيران، لمنع الخروقات بحق خصومها السياسيين والناشطين، وإنهاء ملف مزدوجي الجنسية المعتقلين في سجونها سيئة السمعة باتهامات واهية لابتزاز الغرب، بحسب تقارير المنظمات المعنية بحقوق الإنسان، والتصريحات الرسمية لحكومات غربية.

كما أن واشنطن لن يكون بمقدورها رفع العقوبات بصورة كاملة، وذلك لاعتبارات عديدة، تتمثل في معارضة أطراف داخلية، من بينهم الحزب الجمهوري، مع الوضع في الاعتبار اقتراب موعد انتخابات التجديد النصفي في الكونغرس لعام 2022، والمرجح أن يفوز فيها الجمهوريون، فضلاً عن التصعيد الإسرائيلي، وإعلان الأخيرة عدم الالتزام بأي اتفاق مع إيران حول ملفها النووي، ثم التلويح بعملية عسكرية، الأمر الذي تسبب في تنامي الخلافات بين الإدارة الأمريكية وحكومة “نفتالي بينيت” وقبلها “بنيامين نتنياهو”، والتي بلغت أقصى مراحلها بينما دخلت فترة جمود غير مسبوقة.

وحذر “بينيت”، منتصف الشهر، الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” ، من مخاطر عدم “الوقوف الحازم” ضد تقدم إيران في مشروعها النووي، كما شدد قبلها على اعتماد استراتيجية مغايرة تتمثل في “الهجوم المتواصل (على طهران) وليس الدفاع المتواصل”، وأردف: “نحن قلقون بالتأكيد من محادثات فيينا. ويهمني القول، والتوضيح هنا، إننا لسنا طرفاً بالاتفاقيات، ولسنا ملتزمين بما سيدون فيها، في حال تم توقيعها، وسنستمر في الحفاظ على حرية عمل كاملة في أي مكان وزمان ومن دون قيود”.

واللافت أن الولايات المتحدة حاولت مع انطلاق المفاوضات النووية في عهد “رئيسي” إلى رفع (بعض) العقوبات عن طهران، لكن ذلك لم يغير من الموقف أي شئ، بينما لم يدفع بأي تقدم. ومنتصف الشهر الحالي، اتخذت واشنطن خطوة لافتة أخرى، حيث كشفت كوريا الجنوبية، أن الأولى قد سمحت لها بأن تدفع لشركة إيرانية تعويضاً بعشرات ملايين الدولارات، لتسوية نزاع يعود تاريخه إلى عام 2010، في إعفاء نادر وجزئي من العقوبات الأمريكية المفروضة على النظام الإيراني.

وقالت وزارة الخارجية الكورية الجنوبية، في بيان رسمي، إنها تلقت من وزارة الخزانة الأمريكية “ترخيصاً محدداً” بدفع تعويض قدره (73) مليار وون (61) مليون دولار لمجموعة دياني الإيرانية. وأضافت أن “الترخيص يسمح لنا باستخدام النظام المالي الأمريكي لدفع تعويض للمستثمر الإيراني الخاص”.

ورغم أن المعطيات والرسائل الأخيرة من قبل المفاوضين النوويين، تؤشر على احتمالية التوصل إلى إتفاق، فإن وزير الخارجية الأمريكي “أنتوني بلينكن” لوح بالبحث عن بدائل وخيارات أخرى غير المسار الدبلوماسي، في حال انهيار المحادثات غير المباشرة مع طهران، لا سيّما أنه أكد على نفاذ صبر القوى المنخرطة في فيينا، وأن الوقت المتبقي لتحقيق النتائج الحاسمة هو “أسابيع وليس شهوراً”. وقد شدد على القلق المتنامي حيال احتمالية حيازة طهران القنبلة النووية، وقال: “إيران تقترب أكثر فأكثر من اللحظة التي يمكن فيها أن تنتج، خلال فترة زمنية قصيرة جداً، ما يكفي من المواد الانشطارية لصنع سلاح نووي”.

وبحسب المعلومات المتواترة من مصادر رسمية غربية وإيرانية، فإن الشهر المقبل (فبراير) سيكون النقطة الفاصلة بخصوص التوصل لاتفاق أو انهيار المحادثات، وبغض النظر عن احتمالية حدوث ذلك من عدمه، والتعقيدات وراء امتلاك طهران المعرفة بالتقنية والتكنولوجيا النووية، خاصة في ما يتصل بعملية التخصيب، فإن هناك تحديات جيوسياسية للولايات المتحدة تجري على تخوم الملف النووي؛ حيث الأطراف الإقليمية التي تشعر بمخاوف أمنية إزاء هذا الأمر سوف تبحث عن تأمين مصالحها، ما قد يؤثر على علاقة واشنطن بحلفائها الإقليميين التقليديين، ومن ثم، البحث عن شركاء آخرين (الصين وروسيا، مثلاً).

وفي ظل الشراكة الاقتصادية والتجارية الاستراتيجية بين الصين وإيران، الممتدة لنحو 25 عاماً، يبرز التنافس المحتدم بين بكين وواشنطن، بينما تسعى الأخيرة، إثر انسحابها من الشرق الأوسط، إلى تعزيز نفوذها وتواجدها في جنوب شرق آسيا.

وبالتالي، فإن دول الترويكا الأوروبية تبدو أطرافاً وازنة في مسار المفاوضات النووية، من خلال تقليل حالة التنابذ ووضع مقاربة حيادية وأكثر فعالية لجهة منع الانهيار الكامل للاتفاق النووي، خاصة أن أوروبا لديها مصالح مباشرة وحيوية، تخص إنهاء النزاع حول الاتفاق النووي، لضمان استقرار منطقة الخليج، والتي تعد مصدراً مهماً لإمدادات النفط والطاقة العالمية، بينما شهدت الملاحة الدولية في مياه الخليج توترات أمنية قصوى على خلفية الاستفزازت البحرية بين طهران وإسرائيل.

وعليه، لا تتخطى المواقف الأوروبية مستوى التفاؤل الحذر والمتردد، وقد ألمح الأوروبيون إلى مناورات طهران التكتيكية، المتمثلة في عملية كسب الوقت والدخول في مفاوضات استنزافية، من خلال الانخراط في جولات عديدة بينما لا تتناسب مع درجة التطور في المعرفة النووية والتقدم الذي تحققه في مشروعها،فوزير خارجية فرنسا “جان إيف لو دريان” قال إن المحادثات النووية تشهد “تقدماً”، غير أنه عاود التأكيد على مخاطر “البطء” الذي يجري في المفاوضات بفيينا، وقال: “كنا نسير في اتجاه إيجابي، لكن الوقت عامل جوهري لأننا إذا لم نتوصل لاتفاق بسرعة، فلن يكون هناك شيء نتفاوض عليه”.

إذاً، الجميع يقف على أطرافه أمام الفرصة الأخيرة بحساب مصالحه الاستراتيجية السياسية والإقليمية والأمنية والاقتصادية، فالمسألة تتجاوز الملف النووي – الذي هو أحد أوراق الضغط لمزايدات سياسية بين إيران والغرب، وكذا الولايات المتحدة- والذي بالفعل خرقت طهران بنوده – اتفاق عام 2015- وراكمت خبرة تقنية وتكنولوجية نووية تجعلها في مستوى آخر يختلف عما قبل العام الأخير، وحتى لحظة انسحاب “ترامب” ، وهو الأمر الذي سبق للاستخبارات الأمريكية أن ألمحت له في تقريرها قبل عقود، حينما أكدت أن النظام الإيراني لا يسعى لامتلاك القنبلة النووية بقدر ما يحاول كسب الخبرة والمعرفة الفنية لإنتاجها.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة