واحة الغروب.. حكاية التجلي بالملح في “سيوة”

سيد طنطاوي

لسنوات كنت أُمني نفسي بزيارة لواحة سيوة، مدفوعًا في ذلك بما رواه بهاء طاهر في روايته “واحة الغروب”، وبما قدمه المسلسل المأخوذ عن الرواية ويحمل اسمها أيضًا، والذي أجادت المخرجة كاملة أبو ذكري تقديمه.

عالم بدا لي مختلفًا – وهو كذلك بالفعل- يزرع فيك شغفًا يستحقه، وتشعر حينما تراه مرسومًا في كتابات المُبدعين، أن زيارة هذا المكان فرض عين وليست فرض كفاية، ومن ثم عزمت على تأدية الفريضة وقتما تيسر الأمر.

حينما عزمت على الزيارة – مجرد العزم- وجدت انشراحًا في صدري، لكن لم أربط أو أسع للتفسير، بل تركت الأمور تسير في مسارها الطبيعي، لكن اللافت أن نوبة الاكتئاب التي كانت قد أصابتني قبل السفر ببضع أيامٍ، وجدتها تتراجع تدريجيًا كلما ابتعدت عن القاهرة واقتربت من محافظة مطروح، لاستقل سيارة من هناك إلى الواحة.

في سيوة وجدت شمسًا غير شمس القاهرة، فرغم حدتها بعض الشيء، إلا أنها كانت ضيفًا خفيفًا على رأسي، تغدو وتروح، وكأنها تحمل ترمومترًا ذاتيًا حساسًا حتى لا تضرك. هناك حيث آخر نقطة تغرب منها الشمس، نحيت كل قراءاتي جانبًا، لأكون دليل نفسي، مستمتعًا بمتعة الاستكشاف، لأجد ما لا عين رأت ولا أذن سمعت.

البداية من المعاملات الإنسانية، فالناس هناك لديهم رضا رباني، فلا تبذل مجهودًا في التعاطي مع البشر، فالأمور كلها بسيطة، لا تعقيد ولا مبالغات في الحديث، وهو أمر أحببته لافتقادي له في القاهرة، فلا قسم كاذب في البيع أو الشراء، والناس لها قبول يفوق وضوح الشمس في ظهيرة يوم جميل كجمال الواحة.

الأخلاقيات هناك شرقية قديمة، غربية حديثة، فلا مضايقة لامرأة، واحترام الخصوصيات هناك على أفضل ما يكون، فالكل في شئونه ولا أحد يتدخل في أمور الآخر ولا أحد يمد عينه إلى جاره أو إلى الزائر، والأمان هناك لا يحتاج قسم الشرطة، فاترك أشياءك أمام بيتك وقلبك مطمئن عليها، فأهل الواحة يؤتمنون على الأرواح والأعراض قبل الأغراض.

المعالم الأثرية هناك فريدة، يدركها من صعد قلعة “شالي”، وجبل الموتى وعين كليوباترا وجزيرة طغاغين ومعبد أمون ومتحف البيت السيوي، لكن في ظني – وليس كل الظن إثم- أن المَعلّم الأساسي للواحة هو الملح.

الملح أعطى نقاءً للواحة، لا يقل صفاءً عن بياضه، وصرت مؤمنًا أنه يقتل الطاقة السلبية، لدرجة أنني حملته معي في العودة إلى القاهرة. ارتبطُ هناك ارتباطًا وثيقًا بالملح، وفي اليوم الثاني طلبت من الدليل السيوي أن يأخذنا إلى الملاحات وعيونها، حيث مياهها النقية، وشرح لي الدليل ما لهذه المياه من فوائد، وفي البداية لم أصدق، حتى أنزلني إلى المياه، وطالبني أن اختبر هذه المياه على جرحٍ قديم، ورغم الألم إلا أنه شُفي تمامًا خلال يومين بعد معاناة لشهور.

أخذني الدليل أيضًا إلى تجربةٍ هي الأفضل على الإطلاق، وهي كهف الملح، هناك حيث يُدفن الإنسان في الملح في تجربة روحية فريدة، وخلال دقائق يغلبك النعاس، وترى في نومك الخفيف هذا كل ما كان سلبيًا في روحك، لدرجة أنك تشعر أن الملح يقتل الهموم، وكانت تجربة عظيمة لتجديد الروح. في هذا الكهف المبني من الملح، خضت تجربة صوفية، أدركت فيها معاني التجلي والتخلي، ووصلت فيها إلى ذروة الصفاء الروحي، ولو كان الأمر بيدي لدعوت المصريين إلى زيارة الواحة من كل فج عميق، لأن كثرة الكلام لن تُجدي نفعًا أمام مقولة الصوفية “منّ ذاق عرف”.

حاولت ألا أترك شبرًا في الواحة دون أن أراه، لكن الوقت لم يسعفني، وخلال رحلة العودة كنت أهون الأمر على نفسي بتسبيحة سياحية مرددًا: “فمن زحزح عن القاهرة وأدخل سيوة فقد فاز”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة