الدولة المتوحشة

عبدالمجيد الخطيب

لطالما تكرر ھذا السؤال مراراً: إلى أین تجري الأمور في سوریا، وما الذي حدث في تلك البلاد حقاً؟ من المنتصر؟ ومن المھزوم؟ من على حق ومن على باطل؟ ولماذا حدثت كل ھذه الفوضى وھذه الضبابیة في قراءة المشھد السیاسي؟ وھل سوف یكون ھنالك حلّ في المستقبل القریب؟.. والكثیر من الأسئلة المحقة التي تشوش الرأي العام العربي العالمي بسبب الدور الذي تقوم به بعض وسائل الإعلام الممولة من قبل بعض الحكومات التي حاولت وتحاول على مر العشرة سنوات الماضیة تصدیر ثورة مضادة سواء في سوریا أو غیرھا من البلدان خوفاً من وصول الربیع إلیھا وأسباب أخرى…

حسناً .. سوف أحاول؛ من خلال تجربتي الشخصیة التي أتاحت لي معاصرة الكثیر من أحداث الثورة السوریة عن كثب منذ اندلاعھا حتى خروجي من سوریا (جغرافیاً)، سرد ھذه المادة ومن ثم قراءتي الشخصیة للمسألة السوریة.

كل ما سوف یذكر في ھذا المقال ھو رأي شخصي وفي الوقت ذاته انعكاس مبني على وقائع حدثت بالفعل موثقة مؤرشفة.

مع بدایة انطلاق شرارة التغییر في تونس، بدأ السوریون ترقب الأحداث عن كثب، منتظرین وصول ریاح التغییر إلى عرین الأسد. فللسوریین تاریخٌ طویلٌ وقصصٌ یشیب لھا الولدان مع الدكتاتوریة والنظام الاستبدادي، الذي حكم البلاد منذ أن انقلب حافظ الأسد على السلطة في البلاد، وفرض قانون الطوارئ الذي یخول للأفرع الأمنیة أن تنكل وتعتقل وتعذب، وتفعل ما یحلو لھا دون اللجوء إلى السلطة التشریعیة في البلاد، ودون محاكم ولا محامین أیضاً.

وعمل نظام البعث في سوریا برئاسة القائد الأوحد للدولة والمجتمع حافظ الأسد منذ أول أیامه في السلطة، على حل كافة الأحزاب السیاسیة والمنظمات المدنیة ومعظم النقابات والصحف ووسائل الإعلام، وفرض رقابة شدیدة على كل شيء تقریباً. وأطلق ذراع أجھزته الأمنیة لتكون صاحبة السلطة العلیا في سوریا. كما أن البلاد شھدت أعلى معدل من الفساد والبطالة في تاریخھا الموثق.

في ظل ھذه الفوضى التي ضربت البلاد منذ عام “1970”، بدأ كل شئ ینزلق نحو الحضیض، بما في ذلك مؤسسات الصحة والمشافي والمؤسسة التعلیمیة. حیث تحولت المدارس إلى مؤسسات صغیرة أشبه بالسجون والمعتقلات تمجد القائد الخالد الذي استنسخ تجربة كوریا الشمالیة بحذافیرھا ولكن بنكھة سوریة. ولكن أقسى ما یتذكره السوریون الذین عاصروا تلك الحقبة من تاریخ بلادھم عن قرب كانت تلك المجزرة التي ارتكبھا حافظ الأسد في عام ”1982“، والتي دمرت مدینة حماة وسط سوریا بشكل شبه كامل، وراح ضحیة تلك المجزرة قرابة الأربعین ألف مدني، بینھم الطفل والعجوز والشاب والعامل والطبیب والمسلم والمسیحي. تعمد حافظ الأسد من خلال تلك المجزرة إثارة الرعب والذعر في قلوب كل من یخطط للتمرد علیه وكافة السوریین أیضاً. حدثت كما أرادھا.. اللبنة الأولى في جدار الخوف والصمت الذي شیده بدماء وجماجم السوریین والسوریات، وتبعها توریثه السلطة لنجله بشار الأسد، الذي تفاءل به السوریین في البدایة بسبب الھالة الكاذبة التي رسمھا لنفسه على أنه صاحب فكر لیبرالي منفتح على تقبل الاخر، وأنه سوف یقود مسیرة إصلاح وتطویر تقود البلاد إلى مكانھا التي تستحق.

لكن سرعان ما تبین العكس تماماً على أرض الواقع. فالمعتقلین السیاسیین الذين تقدر أعدادھم بالآلاف ما زالوا قابعین في السجون دون أیة تھم أو محاكمات، لا وبل ازدادت أعدادھم. ففي عام “2005” أوھمت السلطة في دمشق بعض الشخصیات الوطنیة من كافة المكونات والطوائف والكتل المعارضة التي اعتادت على العمل في الظل على مدار الأربعة عقود المنصرمة، أنه لا بأس من ممارسة القلیل من العمل السیاسي والنشاط المجتمعي خارج الظل .. ولم یكن ذلك الرضى سوى فخ؛ استطاعت أجھزة المخابرات من خلاله الاطلاع على كافة الأسماء المتھمة بممارسة العمل السیاسي أو المدني، ومن ثم زجھم         في السجون والمعتقلات التي أُشبعت بدماء السوریات والسوریین على مر أربعین عاماً.

كفانا حدیثاً عن الأسباب التي دفعت السوریین إلى ثورة، فالأسباب كثر.. ولو أتيح لي الوقت لذكرت الآلاف.

بالعودة إلى عام عام 2011 بعد أشھر قلیلة من اندلاع الثورة في تونس والإطاحة بالنظام السابق، ووصول ریاح التغییر وصیحات الحریة إلى مصر.. ھنا شعر السوریین/ات أن سوریا ھي الوجھة القادمة. فالحریة لا تحتاج إلى تصریح حتى تجتاز الحدود والقلوب والعقول…

حدثٌ ملحميٌّ حقاً! من كان یتوقع ذلك! الجماھیر الغاضبة في كل البلدان العربیة وصرخات الحریة تعانق السماء! التغیير قد حدث بالفعل! أنه واقع ولم یعد أبدًا خیالًا حكراً على أحلامنا..

كیف كانت البدایة ؟

في العام ذاته، أي 2011 وتحدیداً في شھر آذار/ مارس قام عدد من الصبیة الذین لم تتجاوز أعمارھم الخمسة عشر عاماً بالكتابة على جدران مدرستھم، وكانت الكتابات شعارات مناھضة لنظام الأسد، وأخرى تتنبأ بالثورة وكان أشھرھا( أجاك الدور یا دكتور)، والمقصود بالدكتور ھو رأس النظام في سوریا بشار الأسد على اعتباره طبیب عیون. بعد یومین فقط على تلك الواقعة التي حدثت في مدینة درعا جنوب البلاد ذات الطابع العشائري، استطاعت قوى الأمن في المدینة، وتحدیداً فرع المخابرات الجویة، معرفة الفاعلین. وقاموا باعتقال الأطفال واستیاقھم إلى المعتقل. تعرض الأطفال إلى أشد أنواع التعذیب الجسدي والنفسي حتى أنھم قد تعرضوا للاغتصاب على ید الوحوش البشریة في زنزانات المخابرات الجویة.

تدخل الأھالي في تلك الأثناء وشكلوا وفد مؤلف من وجوه العشائر في المنطقة وبعض الشخصیات الاعتباریة، وذھبوا إلى رئیس فرع المخابرات الجویة في ذلك الوقت (عاطف نجیب) وطلبوا منه أن یخرج الصبیة من السجون على الفور. ولكن الرد كان مختلفاً، حیث طلب منھم عاطف نجیب أن یجلبوا نسائھم إلیه لكي یغتصبھم وھو وعناصره ، لیستبدلوا هؤلاء الأطفال  “ببذرة  جدیدة أكثر وطنیة” على حسب وصفه..

وكانت تلك الحادثة بمثابة الشعرة التي قسمت ظھر البعیر بالنسبة للسوریین بشكل عام وأھالي درعا بشكل خاص، حیث خرج السوریون بالآلاف إلى الشوارع في أول جمعة من جمعات الثورة السوریة، وأطلقوا علیھا اسم “جمعةالكرامة”.

أما على المقلب الآخر، أي مقلب البعث والطغمة الحاكمة، فلم تسمح لھا عنجھیتھا بأن تدع الأمور تجري على ماھي علیه. و تدخلت قوى الأمن لتفض المظاھرات والاحتجاجات بقوة السلاح. ولكن مع ازدیاد وتیرة العنف الممنھجة كانت رقعة العصیان والاحتجاجات تتوسع بشكل أسي. ولم یمض أسبوع واحد على الأحداث الدامیة التي حدثت في درعا إلا كانت جمیع المدن والقرى السوریة قد دخلت رسمیاً في خارطة الثورة. ففي جمعة العزة -الجمعة الثانیة في الثورة السوریة –   “25.03.2011“ كانت البلاد قد دخلت رسمیاً في منعطف التغییر وأدرك السوریون جمیعاً أن سوریا ما بعد 2011 لم ولن تكون كما كانت علیه قبل ھذا التاریخ.

استمرت المظاھرات التي اجتاحت البلاد بالتكاثر، وفي بعض المدن وصلت أعداد الناس التي خرجت إلى الشوارع قرابة النصف ملیون، وھذا ما حدث فعلاً في مدینة حماة تحدیداً في 24 دیسمبر.   ولكن رأس السلطة في دمشق لم ترق له الأحداث كثیراً، فأمر الجیش أن یتدخل بعدته وعتاده الثقیل ویجتاح المدن والقرى ویحاصرھا ویرتكب المجازر في سوریا من شرقھا إلى غربھا ومن جنوبھا إلى شمالھا. إذ لم تنتھي السنة الأولى من الثورة السوریة 2011 ومع بدایة العام الثاني 2012 حتى قدرت أعداد الضحایا بقرابة المئة ألف ضحیة، منھم تحت التعذیب في السجون، ومنھم من قضى في ساحات الحریة على ید قوى الأمن، ومنھم من قتل تحت القصف نتیجة العملیات العسكریة العدائیة بحق أحیاء ومدن بأكملھا.

العسكرة وحرب الشوارع والسیطرة على المدن

مع كل تلك الأحداث الدامیة والإفراط الممنھج باستعمال العنف الذي اتبعه النظام، وأسالیبه المتمعنة بإذلال السوریین والسوریات منذ اللحظات الأولى من انطلاق الثورة، تدخل المنطق والفیزیاء وكل الأعراف البدیھیة لتقول كلمتھا. أن لكل فعل رد فعل … وأن الضغط لا یولد إلا الانفجار .. وأن الشد المفرط لا یقود سوى إلى الارتخاء.

في العودة إلى العام العام الثاني على اندلاع الثورة السوریة “2012“ بدأت المؤسسة العسكریة في سوریا بالانھیار. حیث شھدت أعداد مھولة ومتسارعة ویومیة من الانشقاقات وطالت كافة الترتیبات العسكریة الھرمیة، من عسكري أو مجند عادي، إلى ضابط أو صف ضابط؛ حتى عمید ولواء وغیره. انشق العسكر مع سلاحه بالمجمل.. سلاح خفیف إلى متوسط. وبدأنا نسمع بتشكیل جدید على الساحة السوریة وهو” الجیش السوري الحر “، وقوام ھذا الجیش ھو المنشقین الذین انشقوا عن النظام، وثوار مدنیین لاقوا ما لاقوا من عنف وقمع وظلم واضطھاد، وانخرطوا ضمن ھذه المؤسسة التي أخذت على عاتقھا مھمة حمایة السوریین من القتل والاعتقال. واستمرت الانشقاقات في جمیع المدن والقرى والقطع العسكریة المنتشرة في البلاد حتى تجاوزت نسبة السبعین بالمئة من أعداد الجیش السوري في ذلك الوقت. وبدأ النظام بالتھاوي نحو الأسفل. حیث أنه لم تمض ثمانیة أشھر فقط على بدایة العملیات العسكریة التي شنھا الثوار والجیش السوري الحر، حتى فقد النظام مدن كاملة، ولم یعد یسیطر سوى على جزء صغیر جداً من الجغرافیا السوریة؛ أحیاء لا يتجاوز عددها الخمسة في العاصمة دمشق، وبعض المدن والقرى الساحلیة دون أریافھا حتى.

حاول النظام الاستنجاد بحلفائه الإیرانیین والمیلیشیات المدعومة من إیران، كحزب ﷲ اللبناني وكتائب طائفیة أخرى من العراق وأفغانستان منذ اللحظة الأولى لردع العملیات العسكریة ضده، لكنھا لم تستطع أن تحدث فارق على أرض الواقع. واستمرت خسائره یوماً بعد یوم. حتى عام ،2015 حین أعلنت روسیا دخولھا العسكري بشكل رسمي إلى سوريا، واستطاعت أن تقلب موازین المعادلة على كلا الشقین العسكري والسیاسي.

سوف اكمل باقي السرد في جزء ثانٍ من المقالة أبحث من خلالھا على خاتمة … لا بد من خاتمة تعید المنطق إلى رشده.. فالقاتل لا زال حراً طلیقاً.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة