أحيانًا، يكون منشور عابر على فيسبوك هو الخيط الذي يكشف عن ثوب مهترئ. منشور لمخرج شاب، يشكو فيه من إزاحته من مهرجان ناشئ، كان هو الشرارة التي أشعلت نقاشًا واسعًا حول متاهة المستحقات المالية داخل وزارة الثقافة.
وما يبدأ بالـ “تضامن مع حالة فردية”، سرعان ما يتحول إلى تحقيق في “أزمة ممنهجة”، تطال المهرجانات السينمائية والهيئة العامة للكتاب على حد سواء. شهادات متتالية كشفت عن نمط متكرر من الحقوق المهدرة، لتطرح سؤالًا لا يمكن تجاهله: أين تذهب مستحقات المبدعين؟

أُقيمت الدورة الـ 25 لمهرجان الإسماعيلية السينمائي في عام 2024، وحتى الآن لم يتقاضَ 40 فردًا مستحقاتهم المالية في تلك الدورة من نقاد ومبرمجين ومترجمين. وبعد كثير من المطالبات والأحاديث الودية، قرر المشاركون كتابة طلب موجه إلى وزير الثقافة، ورد فيه تفاصيل المشكلة التي تقف حائلًا بينهم وبين مستحقاتهم. وجاء في نص الطلب:
“بالرجوع لإدارة المركز القومي للسينما، المنظم للمهرجان، أفادت بأنه يُشترط لصرف مستحقاتنا ضرورة إصدار فواتير إلكترونية حسب ما وصلهم من منشور خاص مرسل من وزارة المالية. وعليه، توجهنا فرادى ومجموعات، وعن طريق عدد من مكاتب المحاسبة القانونية، لأكثر من مقر من مقرات مصلحة الضرائب وإلى مصلحة بحوث الضرائب، وكانت الإجابات التي تلقيناها هي عدم إمكانية إصدار الفاتورة لكلٍ حسب حالته الخاصة؛ فمنا من يعمل بجرائد خاصة ومؤمن عليه منذ سنوات، وأعضاء في نقابة الصحفيين التي تحظر على أعضائها إصدار سجل ضريبي، وبالتالي الفاتورة الإلكترونية”.
لغز الفاتورة السينمائية
يرى الناقد السينمائي هيثم مفيد، أن الأمر يُعد “تطفيشًا” من جهات معينة، ويوضح في حديثه مع فكّر تاني: “علشان مانشتغلش مرة تانية في المهرجان، أنا ضمن 40 شخص تاني اشتغلنا في المهرجان، كنت في لجنة المشاهدة للمسابقة الرسمية. وبالإضافة لشغل المسابقة، كنت بترجم أفلام ومع ذلك، ماخدتش مستحقاتي لا على المشاهدة ولا الترجمة”.

ويشير مفيد أن هناك آخرين في مناصب داخل إدارة المهرجان، لم يحصلوا على مستحاقتهم، وانتظروا جميعًا فترات طويلة حتى بدأوا السؤال عن أمولهم، لكن كانت الإجابات غير مفهومة “شوية مشاكل”، حتى أن البعض توجه لمصلحة الضرائب، لكن الوحيدون الذين حصلوا على مستحقاتهم، هؤلاء الذين يعملون في الصحف القومية فقط!!.
“بدأنا نطالب: إدونا فلوسنا واقتطعوا منها الضرايب من المنبع. ولكن قوبل ده بالرفض، واستمرت المشكلة من وقت وزيرة الثقافة نيفين الكيلاني، وبعد تولي دكتور أحمد هنو حاولنا نحل المشكلة، وهو توعد في تعليق عبر فيسبوك، على صفحة الناقد رامي المتولي، إنه هيتدخل لكن محصلش أي جديد ومنعرفش حتى ما تم. وناشدنا كتير كافة المسؤولين لكن مفيش فايدة. وعرفنا بشكل غير رسمي من كلام مسرب إن الفلوس دي تم توزيعها على العاملين في المهرجان من المركز القومي للسينما تحت بند مكافآت ليهم، ولم تَعُد للمالية مرة أخرى بما إنها مستحقات لم تُسلم”.
بينما وصف ناقد آخر، رفض ذكر اسمه، الوضع: “ده تعنت من عدد من موظفين المركز، ومستغلين سلطاتهم علشان يمنعوا الصرف، وبالتالي منشتغلش في المهرجان تاني”.

وتقول أروى تاج الدين نائبة رئيس المهرجان، لـ فكّر تاني، مُعبرة عن دهشتها من تعامل المهرجان معهم: “هضرب لك مثال بمهرجان القاهرة، في نفس ظروف مهرجان الإسماعيلية، الاتنين تابعين لوزارة الثقافة. السنة اللي فاتت مطلبش مني أي حاجة على الإطلاق، وسلمني شيك المستحقات بتاعتي مخصومًا منها الضرائب من المنبع. وهنا بيظهر سؤال مش مفهوم، اشمعنى مهرجان القاهرة بيتعامل كده والإسماعيلية بتتعامل بالأسلوب ده؟!”.
لكنها لا تتفق مع حديث هيثم حول توزيع المستحقات كمكافآت: “مظنش، لأن الفلوس مش تحت إيد شخص محدد، لكنها بتطلع بأمر دفع وبتتحول من حسابات المركز القومي للحسابات بتاعتنا بشكل مباشر”.
“تطفيش” أم “تعنت”

تعمل أمل مجدي في فريق ترجمة مهرجان الإسماعيلية منذ عام 2020، وكانت تتقاضى مستحقاتها كل عام، لكن في 2024، لم تحصل على أي مستحقات نظير ما قدمته من عمل، سواء ترجمة أو مقالات نقدية نُشرت في إصدار مطبوع تابع للمهرجان، وأكدت في حديثها مع فكّر تاني: “محدش فينا أخد مستحقاته إلا العاملين في المركز القومي للسينما”، وهو ما يثير الشكوك.
وهذه المشكلة لا ترتبط بالمهرجان فقط، وإنما أيضًا بالهيئة العامة للكتاب -التابعة لوزارة الثقافة- التي تصدر تحت مظلتها مجلتا “فنون” و”إبداع”، ولم يتقاضَ الكُتاب مستحقاتهم في كلتا المجلتين بعد تغيير إدارة التحرير في الفترة الأخيرة.
متاهة المستحقات الهزيلة
“أنا بكتب في المجلات التابعة للهيئة من سنين، ‘فنون’ ممكن من 10 سنين، و’إبداع’ من 4 تقريبًا، والمستحقات ضئيلة جدًا، لا تزيد عن 500 جنيه. طُلب مني مقال في نوفمبر 2023، ولأنهم مش بيطلعوا عدد كل شهر بانتظام، المقال نُشر في أبريل 2024 تقريبًا، كان عدد خاص بفلسطين. وكتبت في عدد تاني بعنوان ‘مصر ثم جاء العالم’، في بداية 2024 وصدر في مايو 2024. بعد فترة تم الإعلان عن تغيير هيئة التحرير، ولأن المستحقات كده كده بتتأخر دايمًا، انتظرت. ونشرت في مجلة ‘إبداع’ مقال، وبعد فترة اتغيرت هيئة التحرير، وأصبح ليا مستحقات في المجلتين، وحتى الآن ماستلمتش أي مبالغ مرتبطة بالمجلتين”.. تقول الناقدة السينمائية منار خالد لـ فكّر تاني.

وتوضح أنها كتبت عن أزمتها في بوست على فيسبوك، ونتيجة للبوست وصلت لرئيس الهيئة، الدكتور خالد أبو الليل، وتواصلت معه واندهاش مما يحدث وقال لها: “إنتي إزاي ساكتة على فلوسك كل ده؟” ووعدها بالنظر في الأمر الخاص بمجلة إبداع، أما فيما يخص مجلة فنون فأشار: “عدّى وقت طويل!”.
تقول منار خالد: “عايزة أأكد إني متهاونتش في حقي ولكن هما عودونا على كده. المكالمة حصلت الجمعة 26 سبتمبر 2025 ومنتظرة، ومش عارفة هل أكلمه تاني ولا استنى فترة، وهل الفترة قد إيه.. برضه مش عارفة”.
رحلة ورقة بيروقراطية
سلسلة طويلة من الإجراءات البيروقراطية، ودوامة من الأوراق التي تسير في رحلة لا يعلم أحد خط سيرها أو محطتها الأخيرة. تتحول عملية صرف المستحقات إلى متاهة عبثية، يُترك فيها المبدعون وحيدين، لا يعرفون من يسألون، أو عند أي مكتب توقفت أحلامهم عن التحرك.
يقول أحد أعضاء هيئة تحرير إحدى المجلتين، رافضًا ذكر اسمه: “آلية الدفع، لما العدد بيصدر من المطبعة بيكون فيه كشف بأسماء الكُتاب المشاركين في العدد، بيمضيه رئيس التحرير أو من ينوب عنه مرفقًا معه مذكرة مكافآت هيئة التحرير، وبعدين ياخدوا لفة إجراءات داخل الهيئة، بداية من رئيس الهيئة ثم رئيس الإدارة المركزية المش عارف إيه، ثم تُقارن الأسماء الموجودة في الكشف بالأسماء الواردة في العدد، والورق يوصل لشؤون العاملين، مش عارف ليه أصلًا بتمر عليهم برضه”.
ويضيف، لا يخفى على أحد أن مكافآت مجلات الهيئة هزيلة جدًا، سواء للكُتاب أو هيئة التحرير: “وبيكون فيه صعوبة لإصدارها، لكثرة الإجراءات. وفي العدد الأخير، محصلش إن في حد بلغنا إن إجراءات صرف مكافآت العدد بدأت، وإحنا كهيئة تحرير مسألناش، ولكن لما بدأ الكُتاب يسألوا، مبقناش عندنا إجابات نقولهالهم لأننا منعرفش. وهو لو فيه آلية طبيعية للعمل، مفروض المكافآت تُصرف من غير ما نحتاج ندور ونسأل عليها”.
إنها ليست مجرد مستحقات مالية مهدرة، بل هي شهادة على منظومة كاملة من الإهمال والتجاهل. منظومة يبدو أنها صُممت لـ “تطفيش” المبدعين بدلًا من تقديرهم، ولتعقيد الإجراءات بدلًا من تسهيلها.
تفتح هذه الشهادات الباب واسعًا، ليس فقط على سؤال “أين تذهب المستحقات؟”، بل على سؤال أعمق وأكثر مرارة: لماذا تحولت العلاقة بين وزارة الثقافة ومبدعيها إلى معركة للحصول على أبسط الحقوق؟ ولماذا لا توجد آلية واضحة تحفظ كرامة من يثرون المشهد الثقافي بدلًا من تركهم فريسة للبيروقراطية؟
