من صوت “رنة الخلخال” الذي غير مسار حياته، إلى جدران المعابد التي استلهم منها رقصة العصا، يحمل الفنان والراقص سمير عبد الله ذاكرة فرقة رضا وتاريخها. في هذا الحوار، يأخذنا في رحلة عبر الزمن؛ من المقر الأول للفرقة في شارع قصر النيل، والسفر إلى نجوع مصر لجمع التراث، إلى الشهرة التي عبرت حدود الوطن.
وفي حواره مع فكّر تاني، لا يكتفي الفنان بالحنين إلى الماضي، بل يقدم شهادة حادة وصادقة عن الحاضر؛ كيف تحول الفن من “حب” إلى “مادة”، وكيف بدأ الإهمال الرسمي يغتال أسطورة الفرقة، ولماذا أصبح محمود رضا “مثل أم كلثوم”، نموذجًا لا يتكرر. حوار عن زمن الأساطير، وسؤال عن مستقبل الفن الشعبي في مصر.

رنة خلخال
-
كيف بدأت حكايتك مع فرقة رضا؟
كانت والدتي صديقة لوالدة الفنان محمود رضا. كنت وقتها ألعب كرة القدم، لكن بعد أن شاهدت عرض “رنة الخلخال”، تغير كل شيء. عرّفتني والدتي على محمود رضا، الذي وافق على انضمامي للفرقة بعد انتهاء موسمها في الإسكندرية. وهكذا بدأت الحكاية.
-
وماذا عن أول مرة خشبة مسرح؟
تدربت لثلاثة أشهر على يد صلاح رضا، شقيق محمود رضا، الذي ترك البحرية من أجل الرقص، وعلى يد كمال المواردي الذي علمنا الباليه، في 50 شارع قصر النيل، المقر الأول لفرقة رضا. بعدها، اشتركت في أول عرض لي، “مولد الحسين”، على مسرح الأوبرا القديمة. وتم تعييني في الفرقة ومن ثم بوزارة الثقافة، وكان أول راتب 20 جنيهًا شهريًا، والعقد مكتوب فيه “المهنة: راقص”.
العصا.. من جدران المعابد لخشبة المسرح
-
كيف طورت فرقة رضا من فنها؟
كنا نسافر إلى القرى والنجوع في بحري والصعيد، حتى وصلنا إلى سيوة، لنجمع الرقصات التراثية. كنا نهضمها، ثم نهذبها ونضيف إليها دون أن نخلّ بروحها. رقصة العصا مثلًا، أخذناها من على جدران المعابد والمقابر في بني حسن بالمنيا، وهذه الرقصة من أهم الرقصات، التي استمرت في وجداننا من تاريخ مصر القديمة.
وصممنا منها أربع رقصات مختلفة. منها رقصة العصا الواحدة، ورقصة العصايتين، وجاءت أول رقصة بالعصاية في “البنت بيضا”، ثم تم تصميم رقصة بالعصايتين.

وكان محمود رضا أستاذنا ومعلمنا. كان طيبًا ورقيقًا للغاية في تعامله معنا، لكنه كان يعبد شغله. كان حنونًا جدًا، وتتوافر فيه كل الصفات الجميلة.
“كنا نعمل حبًا في الرقص الشعبي، كنا نرضى أيضًا بأي مقابل مادي بسبب هذا الحب، لكن الآن، كل من يقدمون الفن يسألون أولًا: “هناخد كام، هناكل منين ونشرب منين؟!”. بعد محمود رضا، لم يستطع أحد أن يملأ الفراغ الذي تركه، تمامًا مثل أم كلثوم “مش هانعرف نجيب زيهم”، فالجميع الآن مهتمون بالبحث عن المادة لا عن الفن.
-
بعد سنوات، أسست فرقتك الخاصة. ما حكايتها؟
أسست “فرقة القاهرة للرقص الشعبي” عام 1982. قدمنا عروضًا في مصر وسوريا ولبنان وتونس وأوروبا. كنت أنا الراقص الوحيد وسط راقصات من جنسيات مختلفة، بينهن لبنانية وتركية. استمرت الفرقة عشر سنوات حتى عام 1992، وقتها كنت قد تعبت. خلال هذه الفترة، درست فن الإخراج والاستعراض لثماني سنوات في إيطاليا، وعندما عدت إلى مصر، عملت مشرفًا فنيًا في الهيئة العامة لقصور الثقافة، وعدت أيضًا لأصمم رقصات لفرقة رضا.
“كل من هب ودب بقى فنان”..
-
كيف ترى حال الفن اليوم، خاصة الرقص الشعبي؟
حاليًا، لا يوجد فن. المواهب قلّت، والكل يبحث عن المادة. “كل من هب ودب بقى فنان”. كنا نحن خريجي جامعات وأبناء عائلات. فرقة رضا نفسها تعيش اليوم على تراث محمود رضا وفريدة فهمي، وأي جديد تقدمه لا يلقى نفس النجاح.

-
وفي رأيك، لماذا تراجع دور فرقة رضا؟
بدأ الإهمال الجسيم في عهد الوزير فاروق حسني. وكنا كلما طلبنا أي شيء، يقولون: “مش موجود”. نطلب ملابس لعرض، فترفض الوزارة بحجة عدم وجود ميزانية. جلس على مقعد الوزير أكثر من 20 عامًا، وكأن مصر معدومة الكفاءات، ولم يقدم للفرقة غير الإهمال، ما اضطرنا إلى ترك الفرقة، وبدأنا نبحث عن عمل في أماكن أخرى مثل التليفزيون، أو مغادرة القاهرة والعمل في الخارج.
-
يُقال إن عبد الناصر هو من ضم الفرقة لوزارة الثقافة. ما حقيقة ذلك؟
دعك ممن يقولون هذا. الحقيقة أن عبد القادر حاتم، وزير الثقافة وقتها، هو من شاهد الفرقة وأُعجب بها، وطلب ضمها لوزارة الثقافة. ومن هنا، انطلقت الفرقة لتقدم عروضها في مصر وخارجها.
-
البعض يرى الرقص رفاهية أو خدشًا للحياء. كيف تراه؟
الرقص مثله مثل أي فن، الغاوى فقط هو من يستمر فيه، والفن طاقة روحية بالأساس، لمن يحبها، طاقة تغذي الروح والبدن والعقل. فيعيش الفنان أو الراقص على البهجة والثورة الفنية بداخله التي تدفعه لتقديم ما يبهر الجمهور، لكن بشرط أن يكون الراقص موهوبًا ومحبًا لفنه.

-
ماذا يحتاج الرقص الشعبي ليتطور؟
إذا وجدنا المواهب، فعلى وزارة الثقافة أن تقدم كل الدعم. لكني أستبعد ذلك، فالشباب اليوم لا يجد تقديرًا معنويًا ولا ماديًا. محمود رضا كان الرقص كل حياته، وهناك فرق بين أن تتعلمه فقط، وأن تبحث عنه في كل مكان. أقول للشباب: انظروا لمحمد صلاح، كيف كد وتعب حتى أصبح ما هو عليه.
-
أعطيت للرقص حياتك، فماذا أعطاك هو؟
أعطاني المتعة والبهجة، والصحة والمال والشهرة، خارج مصر أكثر من داخلها، حين كنت نجمًا كبيرًا على صفحات الجرائد والمجلات الفنية، مثل الشبكة والموعد، وعلى شاشات التلفزيون العربية والأجنبية. كنت أصمم رقصات للتلفزيون اللبناني في برنامج بيروت في الليل، إخراج حسن المليجي، كما صممت رقصات فيلم جزيرة العشاق، إخراج حسن رضا.
-
ماذا عن علاقتك بمحمود رضا؟
كنت على اتصال وثيق به حتى وفاته، وكنت أزوره باستمرار. قدمت كتابين عنه: “عصر محمود رضا”، و”الأسطورة والرمز”، صدرا عن الهيئة العامة للكتاب، كما أصدرت كتاب “الأداء الحركي الصوفي”، ولدي كتب أخرى عن ذكرياتي مع الفرقة تحت الطبع عن دار نشر جذور: “الصهبة الإسكندراني”، و”ذكريات لا تنسى.. فرقة رضا”، و”سهراية فنون شعبية”. وما زلت أحتفظ بأفلامنا وفيديوهاتنا، وأشاهدها باستمرار.

-
ما آخر العروض التي شاركت فيها؟
آخر العروض التي شاركت فيها مع وليد عوني بعرض ليالي طيبة في الأقصر كنت مساعد مخرج، ومصمم رقصات.
-
وهل ما زالت علاقتك بأعضاء الفرقة المؤسسين مستمرة؟
من الأعضاء المؤسسين الذين ما زالوا على قيد الحياة، جداوي رمضان، والدكتور الجداوي، وعبد المنعم، وصالح، وتيمور، وحمدي. نحن على تواصل دائم تليفونيًا، ونلتقي على فترات.
