كثيرةٌ هي المصطلحات التي تسربت من علوم الأحياء، إلى أدبيات السياسة، والعكس كذلك صحيح، وإن بدرجة أقل.
من ذلك مثلًا مصطلح؛ “الداروينة السوسيولوجية”، ويرجع إلى الفيلسوف الإنجليزي هربرت سبنسر، الذي وصف في نهايات القرن التاسع عشر الأنساق والنظم السياسية، التي تتذرع حين ارتكابها جرائم التطهير العرقي بخرافات التفوق، ومن أبرزها في العصر الحديث؛ النازية والصهيونية.
ولدينا مصطلح “الاستنساخ السياسي” الذي يتجسد فظًا فجًا ولزجًا مخاطيًا أمامنا اليوم في أسماء المرشحين للبرلمان، حيث يرث ابن أبيه مقعده دون أن يملك خبرة تؤهله لتمثيل الشعب.. لكن قُل يا باسط.
وثمة كُتَّاب وباحثون متحذلقون يجنحون إلى تعقيد السهل وتصعيب اليسير، فإذا بهم يتشدقون بمصطلحات على نحو “البيوسياسية” بمعنى الجسد السياسي، و”الانقسام الخلوي” للمجتمع أي تفككه داخليًا.
أما مصطلح “الفيروس الأيديولوجي” فيدلل على الشعبوية المتطرفة، وتلك تصيب المجتمعات كالعدوى الوبائية عبر الخطاب الإعلامي -ربنا يشفي كل مريض- وهنالك بالمناسبة ما يسمى بـ”العدوى الثورية” للإشارة إلى حراك المد الثوري بين البلدان ذات الظروف المتشابهة، فضلًا عن “الخلايا النائمة” الذي تفشى بعد الثلاثين من يونيو، وغدا تهمة يصطلي نيرانها “العاطل على الباطل”، وكان الفقير إلى الله؛ كاتب هذه السطور من ضحاياها.
وعلى الاتجاه المعاكس، فمن المدهش حقًا أن مصطلح “الهيمنة” وهو سياسي قُح، قد انسرب إلى دراسات الأحياء، ليرمز إلى هيمنة الجين السائد على المتنحي، أما “العدالة التطورية” ومغزاه الإنصاف في توزيع الموارد بين الكائنات، فقد اقتبسه البيولوجيون من “العدالة الاجتماعية” التي لا نكاد أن نسمع لها في الجمهورية الجديدة ركزًا.
إنَّ السياسة تتشابك مع كل أشياء الحياة، وتقتحم كافة مجالاتها بطريقة أو بأخرى، وقد كان أستاذي عالم الاجتماع السياسي الراحل؛ الدكتور إسماعيل سعد يردد في محاضراته الجامعية الشيقة: “كوب الشاي الذي تحتسيه هو من السياسة، فإن ساءت العلاقات مع الهند لن تجده”.
كان ذلك في مطلع التسعينيات، وظني أن الراحل لو كان بين ظهرانيننا اليوم لما ضرب المثال بالشاي، وإنما بالقمح الذي نستورده ولا نزرعه، مما أسفر عن أزمات في توريده لدى اندلاع الحرب الأوكرانية الروسية.

مصطلح سياسي لمواكبة واقعنا العربي
على المنوال ذاته، فإن واقع الحال العربي الراهن، قد يسوغ نحت مصطلح سياسي جديد ذي جذر بيولوجي أيضًا، وهو “تأجير الأرحام السياسي”.
على سبيل التأصيل، فإن عملية تأجير الأرحام تحدث لدى تلقيح بويضة الأنثى بحيوان الذكر المنوي تلقيحًا مجهريًا في المختبرات، ثم زرع البويضة المخصبة في رحم امرأة أخرى تسمى “الأم البديلة”، والأحرى تسميتها “الأم المؤقتة” ذلك أنها ما إن تضع حملها يُنتزع من صدرها إلى أبويه البيولوجيين اللذين يحمل صفاتهما الوراثية، ولا يحمل شيئا من التي حملته وهنًا على وهن.
عرف الطب تأجير الأرحام عام 1980، إذ أجريت أول عملية ناجحة في الولايات المتحدة، ورغم المحاذير الأخلاقية، مثل استغلال فقر الأمهات البديلات، وامتهان أجسادهن وتحويلها إلى وسيلة تربح، لم ترَ آليات السوق الأمريكية بأسًا في إبرام عقود قانونية تقضي بحصول الأم البديلة على أجر لتأجير رحمها.
حتى إذا ما حل عام 1986 تفجرت قضية رأي عام تفجيرًا مدويًا، إثر رفض أم بديلة تدعي “ماري وايتهاد” تسليم مولودتها التي تكونت مجهريًا من نطفة وبويضة رجل وامرأة لهما، ذلك أن مشاعر الأمومة تحركت في أعماقها حين وضعتها، فهربت من ولاية نيوجيرسي إلى فلوريدا ومعها المولودة، لتبدأ إثر ذلك مطاردة بوليسية حثيثة، انتهت بالقبض عليها فمثولها أمام المحاكم.

وبعد عام ثقيل من المرافعات والدفوع القانونية والدفوع المضادة، وقر في يقين المحكمة أن “عقد الإيجار” باطل، لأن “بيع طفل” إجراء باطل، لكنها منحت الولاية للأبوين البيولوجيين، على حين سمحت للأم البديلة بزيارة المولودة، واستند الحكم على أن صفات المولودة الوراثية لا تتشابه من قريب أو بعيد مع صفات التي ولدتها، ما يعني أنها كانت مجرد وعاء مؤقت لها، وإن تغذت وتنفست من جسمها ونمت في رحمها.
في تلك الغضون اهتمت المنظمات الحقوقية والصحافة الأمريكية بالقضية، فقالت الكاتبة “بيتي فريدان”، وهي من أعلام الحركة النسوية: “لقد دخلنا زمنًا تُستأجر فيه الأرحام، كما تُستأجر الشقق”، على حين كتب المفكر القانوني “جون روبرتسون” مقالًا غاضبًا اختتمه بتساؤل: علينا أن نعيد تعريف الأم.. أهي مَن تنجب أم مَن تحمل أم مَن تدفع؟
مخرجات أمريكية إسرائيلية
على المنوال ذاته، يبدو السؤال حتميًا إزاء مخرجات قمة شرم الشيخ: أهي من أصلابنا نحن العرب أم كان دورنا إزاءها هو دور الرحم المستأجر؟
بعيدًا عن نجاح الدبلوماسية المصرية، في إحباط مؤامرة تهجير الغزيين إلى شبه جزيرة سيناء، على الأقل حتى الآن، وهو نجاح ليس هينًا بالنظر إلى حجم الضغوط التي مارسها مقاول البيت الأبيض لتنفيذ مشروعه الأخرق: “ريفيرا غزة”.
بعيدًا عن ذلك.. فالواضح أن مخرجات القمة كانت في أكثرها أمريكية إسرائيلية، فبويضة من هنا، ونطفة من هناك، ومن ثم الزراعة في رحم مستأجر.

وإذا كان لا بد من الإقرار بأن ارتياحًا كبيرًا يتغشى قلوبنا، لأن الأشقاء الفلسطينيين سيحظون بهدنة، حتى يعيشوا ولو مؤقتًا حياة كالحياة، بعد عامين من الـ”لا حياة”، ومع تأكيد الاستبشار بإنهاء حرب التجويع التي رأينا من ضحاياها أطفالًا وشيوخًا استحالوا جلدًا على عظم.
لكن ذلك لا يعني أبدًا غض البصر عن حقيقة موازية، وهي أن بنود خطة ترامب العشرين تعد طوق نجاة لمجرم الحرب نتنياهو، الذي استنفرت وحشيته الغضب في ضمائر الشعوب، التي باتت تضغط على حكوماتها، فإذا بها تعترف “مجبرةً” بدولة فلسطين، وتفرض عقوبات اقتصادية على إسرائيل.
بهذا المعنى فالخطة ليست خطة سلام، بقدر ما هي طوق نجاة لانتشال نتنياهو من لجة الأعاصير التي تضرب الكيان العبري، بعد أن أسقطت عملية طوفان الأقصى سرديته، فلم تعد إسرائيل واحة الديمقراطية في محيط عربي همجي، يقطنه برابرة بدائيون “يأكلون الأرز بأياديهم”.
وليس سرًا أن بنود خطة ترامب العشرين، تختلف جذريًا مع البنود التي اتفق عليها لدى اجتماعه بقادة الدول العربية والإسلامية على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وهو الأمر الذي كشف عنه وزير الخارجية الباكستاني؛ إسحاق دار، في تصريح يبدو من زلات اللسان: “هذه ليست خطتنا”.
وإزاء ذلك تغدو من الغرائب والعجائب، أن يبالغ الخطاب الإعلامي في تعظيم الإنجاز الكبير الذي تحقق بحكمة وحصافة المفاوضين العرب، ذلك أن أحدًا لم يضغط وأحدًا لم يفاوض.
اسمها الرسمي: خطة ترامب، لا أحد ينفي ذلك أو يماري فيه، وبالطبع لا دور لأحد في صياغتها، أو تعديلها حذفًا أو إضافة باستثناء سفاح تل أبيب نتنياهو الذي حرص مقاول البيت الأبيض على الالتقاء به بعد اجتماعه بالقادة العرب مباشرة.
والمعلوم يقينًا أن ترامب الذي هبطت طائرته مطار بن جوريون قبل شرم الشيخ، وكال المديح لصديقه “بيبي” في خطبة لمدة 75 دقيقة بالكنيست، قد كلف صهره الصهيوني كوشنر؛ ذراع إسرائيل في البيت الأبيض، ومهندس اتفاقيات إبرهام، والمسؤول رقم واحد عن نقل سفارة واشنطن إلى القدس المحتلة.. كلفه بطبخ خطة بحسب المذاق الذي يستسغيه نتنياهو.
بعدئذٍ قُدِمت الطبخة على مائدة القمة التي حضرها ترامب نحو ساعتين نفش خلالهما ريشه كالطاووس، متباهيًا بأنه “السوبر مان” الذي صنع السلام.
تخصيب السياسيات العربية
وهكذا جرى تخصيب السياسات العربية بإرادة خارجية، وحدث الحمل بمشروعات لا تلبي مصالح الأمة، أو حتى مصالح الدول القطرية، ناهيك عن المصلحة الوطنية الفلسطينية.
صحيحٌ أن مخرجات القمة -أو بحسب المقاربة- صحيحٌ أن المولود خرج من أضلاعنا، إلا أنه لا يشبهنا ولا ينتمي إلى جيناتنا، وقد يقضي نحبه في أية لحظة، إذا ما قرر مجرمو الحرب في تل أبيب استئناف الإبادة.

والمؤسف من قبل ومن بعد أنه حال حدث ذلك، فإن مقاول البيت الأبيض سيتبرأ من خطته، وسيقدم دون ترددٍ شيكات الدعم على بياض لنتنياهو، وسيتفقان كالعادة على تحميل المجني عليهم مسؤولية سفك دمائهم.
سيناريو يحيلنا إلى حادثة درامية بائسة كان مسرحها تايلاند، حيث ولدت امرأة كانت أجَرَت رحمها لوالدين أستراليين توأمًا، فرفض الأبوان استلام واحد منهما لأنه كان مريضًا بمتلازمة داون، مما دفع السلطات التايلاندية آنذاك إلى سن قانون يحظر تأجير الأرحام للأجانب، فهل ثمة أمل في أن نتوقف عن تأجير أرحام العرب للأمريكان والصهاينة؟
|الآراء الواردة لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لمنصة فكر تاني
