الإسكندرية.. مدينة الرب التي ظُلمت في صمت

شاطىء يراه الناس دون حواجز تعيش فيه الجنسيات المختلفة بمحبة وسلام، أبنية تتمتع بذوق رفيع، وأنشطة مختلفة صيفًا تجمع السكندريين والمصطافين؛ هكذا كانت الإسكندرية قبل كثير من المتغيرات التي أصابتها السنوات الماضية. يونانيون وأرمن وإيطاليون بين المسيحيين واليهود والمسلمين جعلت هذه “التوليفة” الإسكندرية، مدينة كوزموبولتانية تسع الجميع بحب، ولكن ماذا حدث للإسكندرية جردها من كل هذا عبر السنوات؟

الصورة من مسلسل ضمير ابلة حكمت لكورنيش الاسكندرية قبل بناء الكافيهات عام 1991

الإسكندرية أخر عشر سنوات

لنعود بالزمن من الآن وإلى الخلف كي نرصد ما حدث بالإسكندرية بالعشر سنوات الماضية. السنوات التي جعلت الإسكندرانية على مواقع التواصل الاجتماعي ينتفضون متحدثين عن ممارسات تتم في حقها، حولتها إلى مدينة “الكافيهات” وجردتها من شكلها الذي كان يتميز بمعماره.

“ظهر كل شيء بشكل مكثف وسريع منذ عام 2012. تغيرت الإسكندرية بعد ثورة يناير، فمن ناحية بدأ البعض يشعر بملكية الشوارع وأهمية الحفاظ على التراث وبدأ المواطنون يأخذون صف الحفاظ على المدينة. ومن ناحية أخرى كان هناك فريقًا استغل عدم وجود ضبط في هذا الوقت، فأصبح هناك بنايات تظهر في كل مكان بدون الأمان الإنشائي والمناور والإضاءة والصحة الإنسانية”.. يقول محمد عادل دسوقي أستاذ مساعد بقسم العمارة بالاكاديمية العربية للعلوم والتكونولجيا ويستكمل حديثه لـ فكّر تاني، عما حدث لعروس البحر بأخر عشر سنوات:

“كنت شريكًا في مشروع خرائط للبنايات غير المرخصة والمخالفات ولكن لم يستمع لنا أحد حينها أو قبل تعاوننا. ونتيجة هذا الضغط من الأبنية المخالفة أثر على ضغط المياه بحي مثل سيدي جابر وكليوبترا. فقد تضررت الإسكندرية بشكل مباشر وخاصةً بعد قانون التصالح الذي مرر هذه المخالفات وهي جريمة تقنين أوضاع خاطئة”.

قانون التصالح هو القانون  رقم 17 الذي تم طرحه سنة 2019، وتم إجراء بعض التعديلات عليه بموجب القانون رقم 1 لسنة 2020. وقد استغرق تشريع قانون التصالح نحو أربع سنوات، ويقضي القانون بجواز تصالح السلطات في مخالفات البناء، التي ارتكبت بالمخالفة لأحكام القوانين المنظمة للبناء، وأهمها القانون 119 لسنة 2008.

الصورة لحديقة الخالدين قديمًا

لم يؤرق الاسكندرانية مشكلات البنايات المخالفة في العشر سنوات الأخيرة وفقط، ولكن أيضًا بعض التطورات التي لحقت بأماكن تراثية شهدت أحداث هامة بالمدينة، كأحداث 25 يناير. وتفاجأ السكندريون بأن التطوير لم يكن كما هو مُتصور، فعلى سبيل المثال، حديقة الخالدين بمحطة الرمل، التي تحولت من حديقة يستمتع بها العامة وخاصةً الفقراء إلى مجموعة من المطاعم والجراجات.

وكان هناك تصور، أن التطوير يكون لصالح الحديقة ونظافتها وتوظيف عمال لخدمة المواطنين وخدمة الحديقة، لكن تحويلها لمجموعة مطاعم وجراجات أنهى المظهر الجمالي العام خاصةً أنها كانت تحمل  بعض التماثيل الهامة: تمثال للموسيقار سيد درويش، وتمثالين للزعيمين محمد كريم وعبد الله النديم، بالإضافة إلى تمثال لحسن الإسكندراني الملقب “بأمير البحار” الذي عاش في الفترة من 1790 إلى 1854.

الصورة لمكان حديقة الخالدين أثناء بناء الكافيهات والتطوير

يقول محمد عادل دسوقي: “هناك نقطة أخرى علينا التطرق لها؛ الفراغ الذي تحول من مكان للناس والمارة لكافيهات. مثل حديقة الخالدين التي تحولت لكافيهات للطعام، بعد ما كانت حديقة فريال قديمًا نسبة لبنت الملك فاروق، وحتى التماثيل لم تسلم من هذه المشاكل، وحديقة المنتزه تشوهت وهي حديقة تاريخية شديدة الأهمية، وربما القبح الذي طالها وطال حدائق كان أقل بحدائق أنطونيادس”.

الصورة للسان جليم قبل أن يتحول لكافيهات جليم باي

لم تتوقف الأعمال التي تمت تحت اسم التطوير بإزعاج السكندريين، فكانت من المفاجأت ما حدث بمنطقة سيدي جابر وتحديدًا المنطقة التي تطل على كورنيش البحر. فأصبح تمثال الكاتب  المصري القديم الذي كان بأخر شارع المشير ينظر هو الآخر لمجموعة من المطاعم، بجانب كوبري سيدي جابر الذي شوه المنطقة بلا داعٍ وأصبح حوله كالعادة مجموعة من المطاعم، وكأن مصير الإسكندرية بتاريخها العريق يُختزل في مجموعة من المطاعم دون تقدير لقيمتها الحقيقية.

هل توجد حلول؟

ورغم أن المدينة تغير فيها كثير من الأشياء إلا أن هناك بعض الممارسات التي تتم أثناء التطوير التي تؤكد أن هناك حلول لإصلاح ما تم إفساده. فيستكمل محمد عادل دسوقي كلامه قائلًا: “أتمنى استغلال المساحات الواسعة أمام المباني الثقافية؛ مثل المكان الذي خُصص أمام المتحف اليوناني الروماني، فهناك ساحة مفتوحة للجماهير للجلوس والتنزه”.

المتحف اليوناني الروماني وساحته

إذًا هناك بعض الحلول يمكن أخذها في الاعتبار في المرات القادمة، مثل تخصيص ساحات مفتوحة للجماهير بأماكن مختلفة مثلما حدث أمام المتحف اليوناني الروماني الذي تم إعادة افتتاحه بعد التطوير يوم 11 أكتوبر عام 2023.

 ما يلمسه دسوقي هو ما يؤرق المواطن السكندري وينتابه نفس الحزن على مدينته، فيقول محمد فكري لـ فكّر تاني، عن هذه الفترة: “من بعد ثورة يناير لم تعد الاسكندرية كما كانت، فطريق الكورنيش بداية من محطة الرمل وحتى السيَّالة مظلم دون إضاءة”. 

 لم يتبقَ لنا من البحر سوى منطقة ما بعد السلسة وحتى قلعة قايتباي ولم يكن هذا الأمر موجودًا من قبل. الآن ما يغلب هو المال والاستثمار ولا عزاء للناس من يريدون التمتع بـ “الكورنيش”.

أيقونة كوزمبولوتانية ظٌلمت

حسب دراسة بحثية لدكتور أيمن زهري دكتور دراسات السكان والهجرة، أنه في عام1947 كان يسكن الاسكندرية من الجنسيات الأجنبية وغير المصريين 63535 فردًا وبحلول عام 1960 قل هذا العدد ليصبح 45630 فردًا.

اليونانيون تحديدًا كانوا حينها  24609 والإيطاليون كان عددهم 3608 والفرنسيون اختفوا من الصورة بعدما كان عددهم عام 1947، 3259. وكانت الإسكندرية المدينة التي تتسم بالتعايش والسلام بين جنسيات مختلفة من الأجانب والعرب أيضًا كالسودانيين والسوريين والفلسطينين. لكن ماذا حدث للاسكندرية حتى جعل من الندرة أن تجد أحد هؤلاء الأجانب مازال يعيش بالإسكندرية. ولم جاء هؤلاء الأجانب للعيش بالإسكندرية ومتى؟

يقول دكتور أيمن زهري في حديثه مع فكّر تاني: “تم إحياؤها من جديد في عصر محمد علي حتى عام 1940. حيث استقطب محمد علي الأوروبيين والشوام والأرمن، ما فتح الباب لقدوم أناس من الخارج إلى الإسكندرية. وبدأ الوجود الألباني والأرمني والإغريقي بالتجدد، حيث شكلوا جزءًا من شرطة محمد علي. واتبع أحفاد محمد علي نفس النهج”.

اقرأ أيضًا: ثلوجٌ لا تذوب.. نساء الإسكندرية صمدن أمام العاصفة

أين اختفى أجانب الإسكندرية؟

حتى الآن هناك محلات ما زالت تحمل لافتات بأسماء أصحابها الأجانب الذين عاشوا فيها: مطعم ديليس اليوناني بمحطة الرمل الذي يحمل داخله متحفًا بكل قطعة كانت تستخدم منذ حوالي 100 عام، وجيلاتي جاربيس بالإبراهيمية وكذلك النادي اليوناني بمنطقة بحري، ولكن ماذا حدث كي يتبقى من الجاليات الأجنبية بضع لافتات فقط؟

يقول الدكتور أيمن زهري: “قبل 52 كانت المدينة مدينة كوزموبلتانية حتى انقلب المزاج العام ضد الأجانب وليس ضد اليهود فقط وأصبحت بعدها بلد عادية ولم يتبق منها سوى بعض اللافتات من هذا الزمن، وجزء بسيط من الأجانب. بعد 1956 حدث نوع من أنواع التجنيس للأجانب وانكمشت كل الأنشطة التجارية والصناعية في الاسكندرية”.

ويؤكد الدكتور أيمن وجود بعض الأشياء البسيطة التي ما زالت تُعبر عن ملامح الزمن الجميل، كدليلٍ على ما عاصرته الإسكندرية من تعايشٍ بين الجنسيات المختلفة، وكذلك التغيرات التي طرأت عليها وغيرتها اجتماعيًا. فيستطرد قائلًا: “احتفظت الذاكرة ببعض الأشياء مثل النادي اليوناني وبعض المطاعم، ثم تأثرت مصر بالكامل بعد ذلك بالمدّ السلفي الوهابي، والكتلة التي سكنت بعد قطر أبو قير هي التي حكمت على المدينة، فأصبح السلفيون والمتطرفون هم من يتحكمون في المجتمع. وحتى المطاعم القديمة تم شراؤها فقط لمنع تقديم الخمور؛ مثل مطعم جروبي في قلب القاهرة، الذي اشتراه شخص متشدد دينيًا، وأعتقد أن هذا الإغلاق متعمد، وبعض المطاعم الأخرى تحولت إلى صالات أفراح وحفلات”.

إسكندرية الكاتب إبراهيم عبد المجيد

لا يمكن إغفال ثلاثية الأديب إبراهيم عبد المجيد: “لا أحد ينام في الإسكندرية، والإسكندرية في غيمة، وطيور العنبر”، إذا أردنا التحدث عن التغيرات التي طرأت على المدينة وكيف عاصرها الكاتب. فيقول في حديثه مع فكّر تاني: “الجاليات الأجنبية كانت تعتبر مصدرًا للموضة، فكان الناس يقلدون ما يلبسونه، وكان في كل حي من أحياء الإسكندرية أكثر من سينما؛ تُعرض فيها أفلام شعبية يصل عددها إلى نحو 70 فيلمًا في اليوم”.

ويحكي عبد المجيد أن الإسكندرية كانت تمتد بين البحر وبحيرة مريوط، والتي كتب فيها الشاعر محمد علي أحمد -من حي راغب– أغنية “بين شطين ومياه عشقتهم عينيا”. كما احتفظت المدينة بعالميتها، بحسب عبد المجيد: “حتى بعد خروج الأجانب منها في عهد عبد الناصر بعد العدوان الثلاثي، ومع ذلك ظلت المدينة تتمتع بروح التسامح؛ فبابا الإسكندرية، مثلًا، كان يتجوّل في حي المنشية حيث كان الناس يلقون عليه الحلويات”.

كازينة الشاطبي قديمًا وحديثًا من كتاب “الإسكندرية الماضي والحاضر” للكاتب محمد عواد والكاتبة ياسمين حسين

وبعد هذه الفترة في السبعينات بدأ الهجوم على الإسكندرية وهدم بحيرة مريوط التي كانت تخرج مئات الأطنان من الأسماك. والكورنيش الذي كان يتمتع بكثير من الملاهي الليلة، التي كانت تستقبل الفرق الغنائية الأجنبية، ما حفظ للإسكندرية قيمتها كمدينة عالمية.

تغيرات مجتمعية

يتفق الكاتب إبراهيم عبد المجيد مع الدكتور أيمن زهري حول التغيرات التي حلت بالاسكندرية اجتماعيًا، فيحكي كيف أصبح هناك هجومًا  ثقافيًا من الإخوان المسلمين. ومتى بدأوا في شراء الملاهي الليلة ومنعوا بيع الكحول، واستمروا في شراء السينمات وتحويلها لمصانع. وكذلك هجوم الملصقات التي تدعو للحجاب وارتداء الجلاليب.

وعلى صعيد آخر، “المندرة” التي كانت مليئة بالحدائق والفاكهة، تم هدم كل شيء هناك من أجل العمارات والمصانع بعشوائية شديدة. وبدأت المخالفات والعشوائيات تظهر بسبب قانون وضعه الرئيس أنور السادات بأن العمارة التي يكون بها مسجد يُعفى من المخالفات. فبدأ كل مقاول يبني العمارة بمسجدها حتى لو كانت مخالفة لقانون البناء حتى عندما مات السادات لغى الرئيس محمد حسني مبارك هذا القرار ولكن استمر لسنوات طويلة “عُرفًا”.

وينهي إبراهيم عبد المجيد كلامه قائلًا: “ومن ناحية أخرى، زيادة الهجرة من الأرياف للإسكندرية. وهذه التغيرات حدثت بكامل مصر، لكنها ظهرت أكثر بالاسكندرية لأنها مدينة عالمية، فالتغيير بها كان شكله أوضح. وقد كتبت في ثلاثيتي مظاهر هذه التغيرات”.

 اقرأ أيضًا: كتب التراث.. سلاح الإسكندرية الأخير في مواجهة مدينة تنهار

اختفاء المسارح والسينمات

لم يقتصر الصيف بالإسكندرية على ألعاب الشارع فقط، فكانت تستعد كل صيف للمسرحيات الصيفية. وكان الكورنيش مليئًا بإعلانات لمسرحيات مختلفة، ربما أهمها مسرحيات الفنان الراحل محمد نجم، والذي تغير شكل المسرح في الاسكندرية من بعده حيث فقد نشاطه المعروف.

غير أن هدم المسارح، كان من الأسباب التي جعلت المسرح في الاسكندرية مقتصرًا على عدد صغير منها، ولعل أكثرها نشاطًا مسرح قصر ثقافة الأنفوشي، ثم بيرم التونسي الذي أُفتتح عام 2012 بعد التجديدات، ومعهم مسرح ليسيه الحرية.

وكذلك مسرح عبد المنعم جابر والذي كان مسرح الفنان إسماعيل يس في السابق بمنطقة كامب شيزار، ولكن لا يتمتع بالنشاط الدائم ولا يعرف الجمهور عنه الكثير مثل المسارح السابق ذكرها، ولم يكن هذا المسرح هو الوحيد الذي بناه فنان، فقد كان لنجيب الرحياني مسرحًا أيضًا بالاسكندرية ولكن طاله الخراب من الإهمال. أما الآن  فهناك مسرحًا خاصًا للفنانة بدرية طلبة باسم تياترو النيل بالعطارين.

وإذا حصرنا المسارح القديمة فقط بعد التي تم هدمها، فنجد أهم ما تبقى منها: بيرم التونسي، والأنفوشي، والليسيه، ومسرح مركز الحرية للإبداع ضمن 48 مسرحًا كانوا بالاسكندرية! أما عن بقية المسارح فطالها الهدم والخراب من كل ناحية دون اعتراض من أحد، فقط الشباب المهتمين بالتراث والفن هم من ضعفت حناجرهم اعتراضًا على مواقع التواصل الاجتماعي لما يحدث ولم يستجب لهم أحدًا كالمعتاد.

صورة لمسرح السلام قبل هدمه

وعلى الرغم من كم المسارح التي هُدمت واختفاء المنافسة الحقيقة بين العروض المسرحية لكبار الفنانين صيفًا، إلا أن جمهور الاسكندرية يبحث عن عروض المسرح بنفسه ويشهد على ذلك مسرح بيرم التونسي، ومسرح قصر ثقافة الأنفوشي.. فتمتلئ المسارح دائمًا بالجمهور في ازدحام شديد، غير أن هذا الإقبال يقابله نقص في عدد المسارح والعروض الكبرى للفنانين المعروفين. إذ أهمل كثير من الفنانين المسرح، باستثناء تجربة “مسرح مصر” التي كانت تُعد مجموعة من الاسكتشات، لا مسرحًا بالمعنى الكامل للكلمة، وكذلك تجربة مسرح الفنان محمد صبحي.

وعن النشاط المسرحي صيفًا، يقول المخرج الشاب السكندري مصطفى النجار لـ فكّر تاني: “اختفى المسرح التجاري تدريجيًا منذ أواخر الثمانينيات وحتى أوائل التسعينيات، والسبب في ذلك هدم عدد من المسارح. فقد تم هدم مسرح إسماعيل ياسين، وأُقيم بدله مسرح صغير باسم عبد المنعم جابر، كما هُدم مسرح العبد بكامب شيزار، ومسرح لونا بارك، ثم كانت المفاجأة في هدم مسرح السلام الذي شهد عروض الفنان عادل إمام، ومسرح كوتة الذي عرض عليه الفنان محمد نجم أعماله، ومسرح الإبياري الذي قُدمت عليه عروض الفنان سمير غانم. وقد أثر على الحركة المسرحية أيضًا تحوّل الإسكندرية إلى مصيف يستقطب الطبقات الأقل دخلًا، وتراجع الوعي والنشاط المسرحي، إلى جانب انتشار القنوات الفضائية التي بدأت تعرض المسرحيات على شاشات التلفزيون”.

أين السينمات؟

ما حدث للمسارح في الإسكندرية لا يختلف أبدًا عما جرى لسينماتها؛ إذ اندثر أكثر من 40 سينما أو تحول بعضها إلى كازينوهات وصالات أفراح، أو هُدم بعضها لاستغلال أرضها في بناء الأبراج. أما السينمات التابعة للقطاع العام فعددها أربع فقط: فريال، وستراند، وريو، وراديو. يشتكي الناس من أوضاعها التي لا تُعد في أفضل حال. فلا تُجرى لها صيانة دورية، سواء للأجهزة أو القاعات وغيرها. ولا يجد المسؤولون أي تجاوب عند رفع الشكاوى للشركة القابضة المسؤولة عن السينمات الحكومية، فيظل الوضع كما هو عليه.

صورة لسينما ستراند قديمًا

وهذه السينمات الأربع تابعة للحكومة، يخشى جمهورها أن تندثر أو يُستغل موقعها لبناء الأبراج. أما تذكرة السينمات الخاصة فأسعارها مرتفعة بالنسبة للمواطن السكندري البسيط، إذ تبدأ من نحو 100 جنيه.
وفي المقابل، تحاول السينمات الحكومية الصمود رغم ما تعانيه من إهمال وقلة الإمكانيات، إذ تعتمد على أجهزة عرض صينية مؤجرة، ما ينتج عنه صورة ضعيفة الجودة. لهذا يبدو أن نشاط السينمات في الصيف في طريقه إلى الزوال أيضًا، بعد هدم معظم سينمات الإسكندرية، وكذا اتجاه الجمهور لمشاهدة الأفلام عبر المنصات الإلكترونية.

“سافرنا إلى الإسكندرية لقضاء الصيف كعادتنا، وقد كان النشاط السياسي كله قد انتقل إليها بعد انتقال الملك والحكومة، وقد كانت حماسة مستقبلينا في المحطات التي وقف عليها القطار وفي محطة سيدي جابر بالغًا حد الروعة، إن الروح الوفدية مشتعلة وإن الإسكندرية بحق قلعة الوفديين. وكان فندق سان ستيفانو الذي نزلت فيه محور النشاط السياسي، لأن معظم الوزراء ورجال الأحزاب والسراي كانوا يقضون فيه سهراتهم”.. من مذكرات مصطفى النحاس الجزء الأول.

كانت الإسكندرية مقرًا للحكومة بالصيف في عهد الملك فؤاد الأول وفاروق الأول، ويضيف أستاذ العمارة الدكتور محمد عادل دسوقي، أن محمد سعيد والد الفنان محمود سعيد خصص مكانًا لمقر الحكومة في الصيف بمحطة الوزارة في الاسكندرية واسمها لم يتغير، فقد كانت الإسكندرية تستقبل الحكومة  حتى عهد عبد الناصر؛ وحادثة المنشية تشهد على ذلك.

عُرفت الإسكندرية أنها مقرًا للحكومة صيفًا ولكل الطبقات من المصطافين، ولكن في الأونة الأخيرة تحولت الإسكندرية إلى مصيف للفقراء فقط -تقريبًا- بشكل واضح، فما السر وراء هذا الأمر؟

يقول الفنان والمرشد السياحي الدكتور محمد خميس لـ فكّر تاني: “كانت مدينة هامة جدًا في العصر البطلمي والروماني، وفي العصر العثماني حدث انحدارًا على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، ثم جاء محمد علي ليحفر ترعة الإسكندرية والميناء، ومن بعد ذلك، اهتمت عائلة محمد علي بالإسكندرية “مصيفًا”، خاصة الخديوي إسماعيل، فقد أحدث تغيرًا كبيرًا بالقاهرة والإسكندرية، وأراد أن يجعلهما مثل مدن أوروبا التي زارها ومباني وسط البلد التي بالمنشية حاليًا وبمحطة الرمل بنيت في عهده. وأصبحت الإسكندرية مصيفًا للعائلة الملكية التي اعتمدت على قصور بنيت خصيصًا كي تصبح مصيفًا مثل قصر المجوهرات لفاطمة حيدر حفيدة إبراهيم باشا ابن محمد علي، وقصر الصفا لمحمد علي توفيق”.

شُيد قصر المجوهرات عام 1919 بحي زيزينيا، ثم تحول إلى متحف مفتوح للجماهير عام 1986. أما قصر الصفا في المنطقة نفسها، فهو يُعد الآن أحد القصور الرئاسية في الإسكندرية، وقد بُني عام 1887. لكن يبقى السؤال: ماذا حدث للإسكندرية بعد أن كانت مصيفًا للملوك والأمراء في الصيف، حتى صارت اليوم ملاذًا للفقراء فقط؟

يستكمل الفنان محمد خميس حديثه فيقول: “كأي منطقة ذات طابع عريق وأثري، يبدأ الناس بالسكنى فيها، وتحدث تغيرات تظهر معها طبقات اجتماعية مختلفة في مصيف الإسكندرية، وهذا لا يعيب المنطقة في شيء. فالزحام، على سبيل المثال، يعيق العائلات الراقية عن اختيار الإسكندرية مصيفًا لها. وقبل فترة الانفتاح، ظهرت أزمة معمارية تمثلت في تبنّي الفكر الاشتراكي الذي ركز على وظيفة المبنى أكثر من جماليته، فشُيِّدت الأبنية في هيئة مربعات تشبه السجون؛ ما أفقد الإسكندرية مكانتها وقيمتها الجمالية، وتسبب ذلك في نفور الطبقة العليا اقتصاديًا واجتماعيًا من الإسكندرية كمصيف”.

أما التحول الجوهري، فيشير إليه الفنان بقوله: “كانت حفلات كبار الفنانين تُقام في العجمي وبيانكي، لكن المشهد تغيّر مع ظهور الساحل الشمالي وقرى السياحة الحديثة، فتحوّل اهتمام الطبقة الراقية نحو تلك المناطق، ليصل اليوم إلى مدينة العلمين”.

وقد أدى ظهور القرى السياحية بالساحل الشمالي في منتصف ثمانينيات القرن الماضي إلى تقسيم المصطافين إلى شرائح اجتماعية متباينة؛ إذ أصبحت الإسكندرية تدريجيًا وجهة لذوي الدخل المحدود، بينما اتجهت الطبقات المتوسطة والغنية إلى ما يُعرف اليوم بـ”الساحل الطيب”.. وهو الجزء الأقرب إلى محافظة الإسكندرية وتظل تكاليفه في متناول الطبقة المتوسطة حتى اليوم.

لكن مع الوقت، نشأ ما يُسميه رواد مواقع التواصل بـ “الساحل الشرير”، ويقصدون بذلك المنطقة الأبعد ذات الكلفة الباهظة التي لا يستطيع تحملها سوى الأثرياء.

وحول هذا التحوّل، يضيف خميس: “هناك فئة اغتنت دون خلفية ثقافية حقيقية، يظهر أفرادها بمظهر راقٍ فقط شكليًا، ويحرصون على التواجد في الأماكن الأعلى سعرًا وكأنهم يريدون استبعاد الفقراء، كما نشهد اليوم من أسعار الطعام في قرى الساحل الشمالي التي تعزل أبناء الطبقات الأقل حظًا في الإسكندرية”.

لقد مرت الإسكندرية بتحولات عديدة جعلتها مدينة غريبة عن نفسها. ثمة أمور قد تكون قابلة للإصلاح، وأخرى فقدناها إلى الأبد، ليظل الحنين إلى ماضيها يراودنا كلما شاركنا صور المدينة قبل التحوّل على شبكات التواصل، في أمنية مستحيلة بأن يعود الزمن لتستعيد الإسكندرية جمالها ومكانتها التي لطالما استحقّتها.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة