واقعية منقوصة في دراما “متخربشّ حد”

تشهد الدراما المصرية تحولًا ملحوظًا في طريقة معالجتها للقضايا المختلفة. فهناك اتجاه متزايد نحو تقديم الموضوعات دون التعمق في أبعادها النقدية، سواء كانت سياسية أو اجتماعية، وتظهر الشخصيات غالبًا في أطر محددة من المعاناة يصعب تجاوزها. ولا يمكن فصل هذا التحول الدرامي عن السياق العام الذي تتغير فيه مساحات التعبير، فالدراما جزء لا يتجزأ من هذا السياق.

بين الحين والآخر، تظهر أصوات من داخل الصناعة تتحدث عن حدود “التعبير المتاحة”.. ويحاولون طرح وجهات نظر مختلفة، لكن، يظل هذا في الإطار المسموح به، وهذه المحاولات غالبًا لا تؤدي إلى تغيير ملموس.

من فيلم ضد الحكومة

في العام 2024، دار حوار مطول بين المخرجة هالة خليل والمنتجة إلهام شاهين عبر برنامج “كل يوم”، تناول التحديات التي تواجه صناع الأفلام مع الرقابة. طرحتا العديد من النقاط على أمل أن يُفتح باب للحوار.

قالت هالة: “لا نحصل على ردود واضحة من الرقابة حول أسباب عدم الموافقة على الأعمال، ولا توجد لغة حوار. أصبح يُنظر لنا كأننا لا نقدر مصلحة الدولة. في آخر 10 سنوات، واجه أغلب السينمائيين صعوبات، وهناك أعمال كثيرة لمخرجين كبار لم تحصل على موافقات، أنا وغيري مثل يسري نصر الله ومجدي أحمد علي وعمرو سلامة”.

وأشارت إلى أن الرقابة لا تتبع دائمًا المسار القانوني الذي يمنح الصانع حق التصوير في حالة عدم الرد، وذلك عبر عدم إصدار قرار رسمي بالرفض، ما يمنع حتى التقدم للتظلم.

وفي نفس الحلقة، قالت إلهام شاهين: “هناك أعمال اشتريت حقوقها وانتهى ترخيصها، وكان من المفترض أن يتجدد تلقائيًا. لكن تفاجأت بعدم الموافقة، ولم يكن الرفض رسميًا، بل قيل لي: “بلاش الموضوع دا!”، وأكدت عبر حوارها هذا: “نحتاج لمساحة أكبر من حرية التعبير، ليس من المنطقي أن يُعرض كل فيلم على الأزهر والكنيسة وأجهزة الدولة المختلفة!”.

لكن هذا الحوار ظل حوارًا، ولم يُؤخذ بأي من مقترحاتهما، مثل تشكيل لجنة تظلمات مؤقتة كما كان يحدث في فترة رئاسة الناقد علي أبو شادي للرقابة على المصنفات الفنية. بل على العكس، تم تعيين آخر رقيب في فبراير 2025 دون تفعيل أي من هذه الأفكار.

وبنظرة على الإنتاج السينمائي، نجد أنه يميل للتركيز على نوعين رئيسيين، الكوميديا والقصص الاجتماعية، التي تُقدم في إطار هادئ لا يتطرق للقضايا الأكثر إلحاحًا في الشارع. ويتضح ذلك في الرسم البياني التالي:

لم يأتِ هذا التوجه من فراغ. فقبل لقاء “هالة وإلهام” بعامين، طُرحت فلسفة فنية جديدة عبر مقطع فيديو شهير، دعا إلى إعادة تعريف دور الدراما. تم التأكيد فيه على أن أعمالًا مثل “الإرهاب والكباب” أخطأت حين جعلت “البلد خصمًا”، وأن على الفن أن يوجه نقده “للسلبيات” الفردية، وليس للمؤسسات.

هذه الرؤية، التي تعتبر أن الفن النقدي لا يخدم المصلحة العامة، تكررت لاحقًا في دعوة مباشرة لصناع الدراما بأن يتجنبوا تقديم “الغم والهزل” والتركيز على ما “يبني الأمة”. وهو ما يفسر الكثير من التوجهات الحالية في الإنتاج الدرامي.

وهذه الرؤية نفسها وصلت إلى أحد المؤلفين الشباب، حين عرض سيناريو له على أحد المخرجين. يحكي السيناريست لـ فكّر تاني، مفضلاً عدم ذكر اسمه: “كان سيناريو مسلسل اجتماعي كوميدي عن جدة تُشخص بالسرطان، ونرى كيف تتعامل العائلة مع الخبر. وافق المخرج، لكن جهة الإنتاج طلبت تعديلات تتماشى مع التوجهات الأخيرة بالتركيز على الإيجابيات، وأن الناس تساعد بعضها وتعيش في مستوى جيد.. واقترحوا أن تجمع الحارة تبرعات لعلاجها، وكان ردي أن من الأفضل البحث عن سيناريو آخر يخدم هذه الأهداف”.

هذه التوجيهات الشفهية، التي لا تُوثق رسميًا، لكنها، قد تؤثر على الصناعة بالكامل. فالجميع على دراية بها لكن لا يتم التحدث عنها علانيةً. وهو ما يشير إليه سيناريست آخر لـ فكّر تاني: “بالتأكيد هناك موضوعات محددة، خاصةً السياسية، فمن الصعب تناولها في الأعمال التي تُنتج داخل مصر. هذا ليس سرًا. فلدينا مؤسسة الرقابة، ودورها هو الحفاظ على حدود التعبير من وجهة نظر الدولة”.

ويضيف: “لم يحدث أن رُفض لي عمل، لكن هناك إطارًا عامًا متعارفًا عليه لدى كل العاملين في الصناعة حاليًا، وقليلون من يغامرون بتجاوزه. إذا أردنا قياس مساحة التعبير المتاحة حاليًا، يمكننا أن ننظر لأفلام مثل الإرهاب والكباب، والبرئ، وضد الحكومة.. ونتساءل: هل من الممكن أن تُنتج أفلام بنفس هذه الموضوعات اليوم؟!”.

من فيلم البريء

ولا يقتصر هذا على الجانب النظري، فالأعمال المعروضة تكشف أبعاد هذا التوجه. مسلسل “أعلى نسبة مشاهدة” مثالًا، يحكي قصة شيماء، الفتاة التي تنتمي لأسرة بسيطة وتحلم بالثراء عبر “التريند”، لكن الصناع يختارون لها نهاية مأساوية، كأنها رسالة تحذيرية.

يتجنب العمل التركيز على البعد الاقتصادي للأسرة وتأثيره على اختياراتها، على الرغم من الظروف الصعبة التي تعيشها، وبدلًا من ذلك، يركز على إدانة سلوك الشخصيات وبحثها عن المال، وكأن السعي للارتقاء طبقيًا هو أمر يستحق العقاب.

من فيلم الإرهاب والكباب

مسلسل آخر مثل “بالطو”، الذي يقدم معالجة ساخرة لطبيب ينتقل للعمل في وحدة صحية بالريف. يركز العمل على سلوكيات الشخصيات السلبية، لكنه يتجنب تمامًا أي نقد لواقع قطاع الصحة نفسه أو أي قصور من الجانب الرسمي.

كما تحاول أعمال أخرى، تُعرض على منصة “واتش إت”، تقديم صورة لطبقة متوسطة تبدو بعيدة عن الواقع الحالي، في ظل الظروف الاقتصادية التي أثرت على هذه الطبقة بشكل كبير، كما في مسلسلات “تيتة زوزو” و”إيجار قديم”.

ما يجعل هذه الأعمال وغيرها تقدم مضمونًا يبتعد عن النقد المباشر هو ابتعادها عن تفاصيل الواقع المعيشي. أصبحت الشخصيات تدور في فلك لا يشبه تمامًا حياة الناس اليومية، رغم أن الصناع يقدمونها كأعمال “واقعية”.

لكنها واقعية لا تتناول التضخم، أو رواتب الموظفين، أو أزمات الأسعار. وحين تقدم شخصيات من طبقات بسيطة، فإنها تفعل ذلك بعيدًا عن المعاناة الحقيقية، لتركز على أن المواطن هو المسؤول الأول عن واقعه، حتى لا يتكرر نموذج “الإرهاب والكباب”، الذي كانت فيه مؤسسات الدولة طرفًا في المشكلة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة