قوانين بلا روح.. نساء مصر بين التمييز والتجاهل

“انتهت علاقة زواجي بخسارة كل حاجة، حتى مسكن الزوجية، اضطريت أسيبه وأمشي لإنهاء العلاقة دي، ولولا الشقة الصغيرة اللي والدي استأجرها في السبعينات إيجار قديم في منطقة مصر الجديدة، واضطريت للسكن فيها مع ولادي الـ 3، كنا هنعيش دلوقتي بلا مأوى، في الشارع”.. بهذه الكلمات بدأت أمل عبد الواحد حكايتها مع قانون الإيجار القديم، الذي قضى على شعورها بالأمن المعيشي، ودفعها إلى البحث عن سكن بديل.

ترى أمل، وهي امرأة خمسينية، أن قانون الإيجار القديم الذي صدر مؤخرًا لا يختلف عن غيره من القوانين والتشريعات التي تُقرّ دون مراعاة الفروق الجوهرية بين الفئات الاجتماعية المختلفة، ودون اعتبار لمعاناة النساء المعيلات اللاتي يجدن أنفسهن غالبًا تحت ظروف معيشية واجتماعية قاسية. فبدلًا من أن تكون هذه القوانين عونًا لهن، تأتي لتزيد من تأزم أوضاعهن المعيشية والاجتماعية.

تستكمل حديثها بمرارة: “حتى يومنا هذا، تُسن القوانين بغض النظر عن الواقع وما تعانيه النساء. قانون الإيجار الجديد مثلًا بيتجاهل إنسانيتي كـ “امرأة” تخطت الستين، وحالتي الصحية مش زي الأول! بنتي في سن الجواز وعندي ولدين في بداية حياتهم العملية، وكلهم محتاجين السند. لو أخدت حقوقي بالكامل كنت عرفت أقف جنبهم، وبدل ما أبقى جنبهم لو كنت حصلت على حقوقي كاملة، لكني معتمدة بس على شقة صغيرة هي ملاذي الأخير”.

قصة أمل لا تمثل استثناءً، فوفقًا لتقرير “مؤشر الفجوة الجندرية العالمي” الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي، تراجعت مصر عام 2025 إلى المرتبة 134 من بين 146 دولة. هذا التراجع لا يرتبط فقط بسوق العمل، بل يعكس أيضًا قصورًا تشريعيًا يترك أثرًا مباشرًا على حياتهن اليومية.

في هذا الإطار، اعتبر عدد من المحامين أن التشريعات المصرية ما تزال تفتقر إلى رؤية شاملة تراعي حقوق النساء، وأن غياب آليات التنفيذ والردع يجعل القوانين عاجزة عن مواجهة التمييز والعنف. وأكدوا أن تجاهل قضايا النساء في البرلمان واستمرار التوجهات المحافظة يعرقل أي إصلاح حقيقي، في ظل ظروف اقتصادية صعبة تزيد من هشاشة أوضاعهن.

عمرو محمد

يوضح المحامي الحقوقي عمرو محمد أن التشريعات المصرية ما تزال تتعامل مع الأسرة باعتبارها كيانًا واحدًا يُعيلها الرجل. وهو افتراض بعيد عن الواقع، إذ تشير التقديرات إلى وجود نحو 12 مليون أسرة تعولها النساء: “المشرّع لم يراعِ البُعد الجندري ولا الأثر الذي يترتب على هذه الأُسر، خاصةً في ظل الأزمة الاقتصادية الحالية، ما يجعل التأثير الأكبر واقعًا على النساء اللاتي يعانين أصلًا من تمييز في أماكن العمل ويتقاضين أجورًا أقل من الرجال”.

ويرى محمد أن انعكاس هذا الوضع على النساء المعيلات يتمثل في ضغط اقتصادي متزايد، يقابله شعور متنامٍ بعدم الأمان في الحق في السكن، رغم أنه حق دستوري. ويقول: “هنّ أكثر الفئات عرضةً للطرد، لذلك نتمنى أن تراعي اللائحة التنفيذية للقانون هذه الأزمة.”

كما يشير إلى أن ارتفاع قيمة الإيجار وفق التعديلات الجديدة يمثل عبئًا مضاعفًا: “حتى ولو كان الحد الأدنى 250 جنيهًا، فهو مبلغ كبير بالنسبة للنساء المعيلات، إذ إن أغلبهن يعملن بأقل من الحد الأدنى للأجور، ومن دون تأمينات أو أي مظلة للحماية الاجتماعية”.

بُعدًا جندريًا.. ولكن!

بدأ إدخال التشريعات المدنية الحديثة في مصر مع صدور القانون المدني لعام 1948، الذي صاغه عبد الرزاق السنهوري متأثرًا بالنموذج الفرنسي. ورغم أن هذا القانون أقرّ المساواة بين الرجال والنساء كمواطنين في المسائل الاقتصادية والمدنية، مثل العقود والملكية والالتزامات، فإن مجالات الأحوال الشخصية -الزواج والطلاق والميراث- ظلت خاضعة لقوانين دينية وأعراف اجتماعية تمييزية. الأمر الذي يعكس النظرة الأحادية للتشريعات المصرية، التي تتعامل مع الجنسين شكليًا باعتبارهما متساويين أمام القانون، بينما تغيب عنها مراعاة البُعد الجندري والاختلافات الواقعية في حياة النساء.

ومع صعود الحركات النسوية العربية والدولية في القرن العشرين، برزت مطالبات بضرورة إدماج البُعد الجندري في التشريعات. وقد أسفر ذلك عن بعض الإصلاحات في قانون العمل الجديد، مثل النصوص الخاصة بحماية الأمومة وإجازات الوضع.

ومع اعتماد اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة -سيداو، عام 1979، أصبح على الدول الموقِّعة التزام قانوني بمواءمة تشريعاتها الوطنية مع مبادئ المساواة. لكن التطبيق ظل متفاوتًا، حيث أبقت كثير من الدول، ومن بينها مصر، على استثناءات متعلقة بـ”الهوية الثقافية أو الدينية”، وهو ما قيد فعالية الاتفاقية في إحداث تغيير جذري على أرض الواقع.

في هذا السياق أوضحت إلهام عيداروس وكيلة مؤسسي حزب العيش والحرية، أن قانون العمل الجديد أكثر مراعاة للبعد الجندري، بعدما ألغى الاستثناءات التي كانت تحرم العاملات الزراعيات أو النساء العاملات مع عائلاتهن من الحماية، مثل حالة المرأة التي تعمل في دكان زوجها أو في أرض والدها ولم يكن القانون القديم يعترف بعملها.

إلهام عيداروس

تضيف إلهام، أن المشكلة في التطبيق، إذ يتطلب الأمر إما وجود دولة بمشروع اجتماعي تعيّن رائدات ريفيات وأخصائيات اجتماعيات لمتابعة النساء العاملات، أو إتاحة حرية أكبر للحركة النسوية والنقابية، وهو ما تراه غير متوفر حاليًا.

وبشأن مواد التحرش والتنمر، أوضحت أنها مكتوبة بشكل جيد لكن بلا آليات تنفيذ. مشيرةً إلى تجربة المغرب الذي يمنح المرأة إجازة مدفوعة الأجر إذا تركت العمل بسبب شكوى تحرش حتى دون إثبات، بينما في مصر قد تُجبر المرأة على ترك العمل وتتعرض لخصومات أو اضطهاد.

أما مادة دور الحضانة، فرأت إلهام عيداروس، أنها غير عملية لأنها تشترط وجود 100 عاملة، في حين أن معظم المنشآت في مصر صغيرة لا يتجاوز عدد عمالها 10 أو 5 في المتوسط مثل محل الكوافير. وبالتالي تُحرم غالبية النساء من الاستفادة منها: “المفروض أن يكون ‘عاملًا أو عاملةً‘، ولا تنحصر دور الرعاية في النساء فقط دون الرجال”.

قانون المسؤولية الطبية بمعزل عن النساء

رغم أن القوانين الجديدة في مصر تستهدف في ظاهرها تعزيز الحماية للمواطنين، فإنها كثيرًا ما تُصاغ بمعزل عن الاعتبارات الخاصة بالنساء. مثال: قانون المسؤولية الطبية رقم 13 لسنة 2025، الذي سعى إلى تحقيق توازن بين حقوق المريض والطبيب عبر إطار قانوني واضح، لكنه ـ وفق خبراء ـ تجاهل قضايا جوهرية تتعلق بالنساء داخل منظومة الرعاية الصحية.

تقول المحامية انتصار السعيد رئيسة مجلس أمناء مؤسسة القاهرة للتنمية والقانون: “إشكالية غياب البُعد الجندري في القوانين ليست قاصرة على قوانين الميراث أو الإيجارات فقط، لكنها تمتد إلى قوانين حديثة مثل قانون المسؤولية الطبية. إذ تناول القانون الخطأ الطبي والتعويض ولجان التظلم، لكنه لم يأخذ في اعتباره وقائع يومية تخص النساء في أماكن الرعاية الطبية، مثل رفض بعض الأطباء إجراء عمليات دون موافقة الزوج أو ولي الأمر، أو تعطيل العلاج بسبب نظرة الأطباء الأبوية”.

انتصار السعيد

وتضيف أن القانون يحمى المريض بشكل عام، لكنه لم يوفر ضمانات خاصة للنساء اللاتي يتعرضن للتمييز أو التأخير في العلاج لمجرد نوعهن الاجتماعي. وتؤكد: “صحيح أن نقابة الأطباء لديها لائحة تنص على أخلاقيات المهنة، والتي من بينها تقديم العلاج والرعاية الطبية لكافة المرضى دون تمييز، لكن على أرض الواقع الإجراءات ضعيفة جدًا، وغالبًا ما تُسوّى الأمور إداريًا أو تُسحب في لجان مطوّلة، والنساء هنّ من يدفعن الثمن من صحتهن وكرامتهن”.

شعارات بلا أثر

ويرى المحامي ياسر سعد أن غياب البُعد الجندري عن التشريعات والقوانين انعكس بوضوح في تقرير الفجوة الجندرية الصادر عن المنتدى الاقتصادي العالمي لعام 2025. والذي كشف عن تراجع وضع النساء في مصر على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والتشريعية. وأوضح أن الأزمة ليست في النصوص فقط، بل في غياب آليات التنفيذ والعقوبات الرادعة، ما يجعل القوانين مجرد شعارات بلا أثر.

ويشير سعد إلى أن قانون العمل الأخير، رغم منحه بعض المكاسب للمرأة، تجاهل فئات واسعة مثل العاملات في المنازل، ولم يوفر ضمانات حقيقية للنساء في الحق النقابي أو الأمان الوظيفي. كما تستمر انتهاكات جسيمة ضد النساء، من بينها الهجمة على نساء “التيكتوك”، دون أن تُقابل بحماية تشريعية فعالة.

ويؤكد سعد أن غياب الحضور الحقيقي للمجموعات النسوية داخل البرلمان، واستمرار التوجهات المحافظة للأحزاب والتيارات الممثلة فيه، يعرقل أي إمكانية لإقرار تشريعات عادلة. وأضاف أن أجهزة الدولة نفسها، مثل الشرطة وبعض الهيئات، ما زالت تكرّس التمييز والعنف ضد النساء، ما يجعل أي تشريعات جديدة بلا جدوى ما لم تُربط بآليات تنفيذ وضمانات فعلية.

وفي السياق نفسه، يقول المحامي وائل غالي، أن البرلمان لم يُقر خلال السنوات الأخيرة تشريعات قوية لمواجهة العنف ضد المرأة. رغم تكرار وقائع الاعتداءات في الشارع، وآخرها مقطع فيديو انتشر مؤخرًا يُظهر سائقًا وشابًا يشهران سلاحًا أبيض في وجه نساء. ويعتبر غالي أن ردود الفعل الرسمية تجاه قضايا فتيات “التيكتوك” تكشف عن ازدواجية واضحة في التعامل بين الجنسين.

مضيفًا، أن التشريعات الصادرة لم تعالج بجدية قضايا النساء والأطفال، بل استمرار مظاهر التمييز في الأجور والترقيات والمكافآت بين النساء والرجال، رغم صدور قانون عمل جديد. لافتًا إلى أن الامتداد القانوني لعقود الإيجار أغفل فئات هامة مثل الزوجات المسنات اللاتي يعشن على معاش هزيل، متسائلًا: “ماذا يحدث لهن بعد سبع سنوات من انتهاء الامتداد القانوني؟!” مشددًا على أن غياب المعالجات التشريعية لهذه الفئات يعكس توجهًا ليبراليًا لا يراعي العدالة الاجتماعية ولا البُعد الخاص بالمرأة، في وقت تمر فيه البلاد بظروف اقتصادية قاسية.

يكشف الخبراء الذين تحدثوا إفي هذا التقرير إلى أزمة القوانين في مصر، وأنها ليست في غياب النصوص فحسب، بل في افتقارها إلى رؤية جندرية شاملة وآليات تنفيذ فعّالة تجعلها قادرة على إحداث فارق حقيقي في حياة النساء.

تمكين المرأة ليس ترفًا حقوقيًا أو مطلبًا نسويًا ضيقًا، بل هو شرط أساسي لتحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المستدامة. وبينما تستمر التشريعات في تجاهل معاناة ملايين النساء المعيلات والعاملات، يبقى الطريق طويلًا نحو مساواة فعلية تُترجم على أرض الواقع، وتمنح النساء حقهن في السكن والعمل والكرامة الإنسانية على قدم المساواة مع الرجال.

 

يأتي هذا التقرير ضمن إنتاجات مساق الكتابة الصحفية للنوع الاجتماعي الذي نظمه برنامج “صحافة للإنسان”، أحد برامج مبادرة “نكتب لننجو”، بالتعاون مع فكّر تاني.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة