“القطّارة”.. أعمق خزان “جدل” في جغرافيا مصر

مجددًا، يطفو على السطح ملف “منخفض القطّارة” الشائك، مدفوعًا هذه المرة بتداعيات فيضان النيل والإدارة الإثيوبية المنفردة لسد النهضة، والتي سببت فيضانات في السودان وغرق أراضي طرح النهر بمناطق في محافظتي المنوفية والبحيرة بمصر. وهو المشروع الذي ظل على مدار قرن كامل حقلًا للطموحات الهندسية العملاقة، والآن يُطرح كحل استراتيجي محتمل في مواجهة التحديات المائية المستجدة.

بمساحته الهائلة البالغة 19.5 ألف كيلومتر مربع وعمقه السحيق الذي يصل إلى 134 مترًا تحت سطح البحر، لطالما كان المنخفض مسرحًا لصدام بين إمكاناته التنموية الهائلة في مجالات الطاقة والسياحة والزراعة، وبين جدواه العملية ومحاذيره البيئية المعقدة.

القطّارة.. من “حلم نووي” لـ “رؤية خضراء”

يميز الجولة الحالية من النقاش ارتباطها المباشر بالمخاوف الاستراتيجية الناجمة عن إدارة سد النهضة، مما دفع لطرح سيناريوهات جديدة، أحدها يقترح شق قناة من بحيرة ناصر إلى المنخفض، في محاولة للالتفاف على معضلة تملح الخزان الجوفي التي لازمت المقترحات التاريخية.

هذه المقترحات تستند إلى إرث عميق من الدراسات بدأ قبل قرن من الزمان مع رؤى أكاديمية قدمها الألماني “هانز بينك” والإنجليزي “جون بول” (1931)، لكنها اتخذت منحى عمليًا جادًا في عهد الرئيس أنور السادات.

ففي عام 1971، طرحت مؤسسة الطاقة الذرية فكرة استخدام “الطاقة النووية غير التقليدية” لحفر القناة.

تبع ذلك إعداد دراسة جدوى أولية عام 1973، والتي استندت إلى بحوث جيولوجية للمنخفض أجريت بين عامي 1964 و1965، وخلصت إلى أن توليد الكهرباء بتكلفة تنافسية عبر محطات تعمل على الحمل الأساسي والأقصى يتطلب اللجوء إلى “الحفر النووي”. وبحلول عام 1975، كانت دراسة تالية تقارن بين الحفر التقليدي والنووي، وتضع سيناريوهات لاستخدام شحنات نووية تصل إلى 150 كيلو طن.

وفي مقابل هذا التاريخ الذي هَيمن عليه هاجس الطاقة، تبرز اليوم رؤية “مشروع منخفض القطّارة الأخضر” التي بلورها فريق من 35 عالمًا وخبيرًا مصريًا، كنقلة نوعية في المفهوم. فهي لا تركز على هدف واحد، بل ترسم ملامح مشروع تنموي متكامل ومستدام بأرقام طموحة:

عمرانيًا: مجتمع جديد يستوعب 20 مليون نسمة.

زراعيًا: استصلاح 5 ملايين فدان لإنتاج الأعلاف والمحاصيل الغذائية.

وقد ذهبت هذه الرؤية، التي نوقشت باستفاضة في نقابة المهندسين المصريين، إلى أبعد من ذلك، متحدثة عن مجتمع متكامل يمتد حتى عمق 60 كيلومترًا في قلب الصحراء، ونشاط سمكي يحقق الاكتفاء الذاتي، ومنتجات زراعية وحيوانية يمكن تصديرها بالكامل لتوافقها مع المعايير العالمية.

والأهم، أن هذه الرؤية تقدم إجابات مباشرة على الانتقادات التاريخية، عبر استراتيجيتين محوريتين تمثلان نقطة افتراق جوهرية عن الماضي:

أولًا، عدم ملء المنخفض بالكامل لتجنب إحداث ضغط قد يثير نشاطًا زلزاليًا.

ثانيًا، الاعتماد على تحلية مياه البحر المتوسط المنقولة عبر قناة بطول 55 كيلومترًا، كحل جذري لمنع تضرر المخزون الجوفي الاستراتيجي.

منخفض القطّارة (وكالات)
منخفض القطّارة (وكالات)

جدار المحاذير الذي يصطدم بالقطّارة

في مواجهة هذه الرؤى الطموحة، يقف جدار صلب من التحفظات العلمية التي يمثلها خبراء بارزون.

د. فاروق الباز
د. فاروق الباز

العالم د. فاروق الباز (وكالة ناسا) حذر صراحةً من أن توصيل مياه البحر المتوسط سيضر بالمناخ ويؤثر سلبًا على المياه الجوفية وطبيعة الحياة في الواحات.

هذا الموقف العلمي تردد صداه في الدوائر الحكومية، ففي عام 2014، أعلنت وزارة البيئة في عهد الوزير خالد فهمي رفضها للمشروع، معللةً ذلك بمخاطر ارتفاع منسوب المياه الجوفية وزيادة “الرشح” الذي قد يهدد البنية التحتية، بالإضافة إلى التأثير السلبي على الكائنات الحية بالمنطقة.

لكن الموقف الحكومي بدا متناقضًا عندما عادت الحكومة بعد عامين فقط لتعلن عن تشكيل لجنة وزارية برئاسة وزير الكهرباء وعضوية وزراء البيئة والتنمية المحلية والسياحة والزراعة والبترول والري لدراسة المشروع مجددًا، وهي اللجنة التي لم تصل إلى نتيجة معلنة.

د. عمر الحسيني
د. عمر الحسيني

وظل الملف غامضًا حتى عام 2023، حين أعلنت “المجموعة المصرية للتجارة الدولية والاستشارات” (إيجيت للاستشارات) عن توقيع اتفاقية مع شركة “إليت كابيتال وشركاه” لإجراء دراسة جدوى فنية جديدة، كان يُفترض أن تقدم حلولًا للعقبات البيئية باستخدام أحدث التقنيات، لكن نتائجها لم تظهر إلى النور حتى الآن.

ويُرجع د. عمر الحسيني، الأستاذ بجامعة كوفنتري والجامعة الأمريكية بالقاهرة، صعوبة المشروع إلى تحديات عملية وهندسية هائلة. ففكرة توصيل المياه من جنوب مصر تتطلب “شق نهر جديد” عبر تضاريس صخرية وعرة بتكلفة “خرافية”.

كما يلخص الخبراء العوائق الرئيسية في نقاط محددة:

– التكلفة المالية: قدرت وزارة الكهرباء سابقًا تكلفة حفر القناة وحدها بحوالي 14 مليار دولار، وهو رقم تضاعف كثيرًا بعد تحرير سعر الصرف.

– معضلة المياه: الاعتماد على مياه الفيضان يحتاج لسنوات طويلة، بينما يمثل التبخر تحديًا كبيرًا، حيث قد يستهلك وحده صيفًا نحو 10% من المياه المخزنة.

– المخاطر الجيولوجية: هناك حاجة ماسة لدراسة طبيعة الأرض لتجنب التسريب الذي قد يزيد من النشاط الزلزالي.

د. السيد الصيفي
د. السيد الصيفي

ويختتم الحسيني تحليله بالإشارة إلى أن الدولة، في رأيه، تتبنى بالفعل استراتيجية لتنمية الصحراء الغربية، ولكنها استراتيجية تدريجية ومدروسة عبر مشاريع كبرى مثل ‘الدلتا الجديدة’ شمالًا و’توشكى’ جنوبًا، بما يتناسب مع قدراتها العلمية والمادية ومواردها المائية المتاحة.

ويرى د. السيد الصيفي، عميد كلية التجارة بجامعة الإسكندرية سابقًا، أن الدوافع السياسية يجب أن تتغلب على هذه العقبات، معتبرًا أن الإسراع في تنفيذ المشروع هو الردع الوحيد لمنع تكرار استخدام سد النهضة كورقة ضغط، خاصة بعد أن أدى فتح 4 بوابات فقط إلى فيضان مدمر في السودان، متسائلًا: “فماذا لو تم فتح كل الـ 13 بوابة؟”.

يقترح الصيفي تمويل المشروع عبر تأجيل بناء الطرق والكباري وبيع الأراضي الجديدة للمصريين بالدولار.

بحر ميت أم نجاة لمصر؟

د. يحيى القزاز
د. يحيى القزاز

الخبير الجيولوجي الراحل د. يحيى القزاز كان له تفنيد علمي قاطع لجميع السيناريوهات المطروحة، معتبرا إياها غير عملية أو محفوفة بالمخاطر الكارثية.

مقترح تحلية مياه البحر: يصفه بأنه “مستحيل اقتصاديًا وعمليًا” بسبب التكلفة الخيالية، مستشهدًا بأن أكبر محطة تحلية في العالم تنتج ربع مليار متر مكعب سنويًا بتكلفة 7.2 مليار دولار، وهو رقم ضئيل جدًا مقارنة بسعة المنخفض.

مقترح توصيل مياه البحر مباشرة: يحذر من أن تكلفة الحفر قد تتجاوز 15 مليار دولار، وأن النتيجة ستكون “بحرًا ميتًا” يزداد تركيز الأملاح فيه، مما يقضي على أي حياة سمكية أو نباتية ويضر بالخزان الجوفي النوبي، مع احتمالية حدوث زلازل بنسبة 50% بسبب ثقل المياه (طن لكل متر مكعب).

مقترح توصيل مياه النيل: يعتبره غير عملي لأن كمية المياه الفائضة التي تصب في المتوسط لا تتعدى نصف مليار متر مكعب سنويًا، وهي كمية ضرورية لمنع طغيان مياه البحر على الدلتا، مضيفًا أن أراضي الدلتا المحاذية للبحر يجب أن تروى بالغمر وليس بالري الحديث لنفس هذا السبب.

هذا الجدل يعكس حالة الاستقطاب في الدراسات العلمية نفسها. فبينما يروج البعض للمشروع كدرع لحماية الدلتا من الغرق، ومصدر لتوليد طاقة تصل إلى 2000 ميجاوات، ودعم للإسكان والسياحة والزراعة، تحذر دراسات أخرى من عواقب وخيمة.

وتطالب هذه الدراسات المضادة بضرورة فحص الصدوع والشقوق الصخرية، خشية أن يؤدي ضغط حجم مياه يُقدر بـ209 مليارات متر مكعب إلى كارثة في دلتا النيل عبر رفع منسوب المياه الجوفية المتشبعة بالملوحة أصلًا، وتدمير الزراعة في الواحات القريبة مثل سيوة والبحرية. وفوق كل ذلك، يبقى خطر اختلال توازن القشرة الأرضية وإحداث زلازل قد تطال مدنًا كبرى مثل الإسكندرية (180 كم) والقاهرة (300 كم).

صورة جوية لمنخفض القطّارة (وكالات)
صورة جوية لمنخفض القطّارة (وكالات)

القطّارة.. معضلة مصر الاستراتيجية

وهكذا، يقف مشروع منخفض القطّارة عند مفترق طرق تاريخي، ليس مجرد ملف هندسي، بل معضلة استراتيجية كبرى لمصر الحديثة. فهو يتأرجح بعنف بين قطبين متناقضين: قطب الضرورة السياسية الملحة التي تفرضها تحديات مثل سد النهضة، وتدفع بأصوات مثل د. السيد الصيفي إلى المطالبة بتنفيذه كـ”ردع استراتيجي” مهما كانت التكلفة، وقطب المحاذير العلمية القاطعة التي يطرحها خبراء جيولوجيون وبيئيون بحجم د. فاروق الباز ود. يحيى القزاز، محذرين من عواقب قد تكون كارثية، تتراوح بين تدمير الخزان الجوفي وإثارة زلازل مدمرة.

وبين هذين القطبين، تحاول رؤية “مشروع منخفض القطّارة الأخضر” تقديم نفسها كطريق ثالث، حل مبتكر يتجاوز أخطاء الماضي عبر تقنيات التحلية والهندسة المحسوبة. لكن حتى هذه الرؤية الطموحة، بأرقامها الواعدة (20 مليون نسمة و5 ملايين فدان)، لا تسلم من التشكيك وتصطدم هي الأخرى بحاجز الجدوى الاقتصادية الهائلة الذي يجعلها أقرب إلى الحلم منها إلى الواقع المنظور.

هذا الانقسام العميق ينعكس بوضوح في تردد الموقف الرسمي، الذي تأرجح بين الرفض الصريح عام 2014، وتشكيل لجان للدراسة عام 2016، وصولًا إلى الغموض الذي يلف مصير دراسات الجدوى الحديثة الموقعة عام 2023.

وفيما يتجاوز النقاش الحدود المصرية، ليتحول إلى مادة للتحليل والتحذير في الإعلام الإسرائيلي، تبرز المفارقة الأكثر دلالة في الفجوة السحيقة بين هذا الواقع المعقد والمتشابك، وبين صورته الشعبية المبسطة.

فعلى منصات التواصل الاجتماعي، يتم الاحتفاء بالمشروع كإنجاز استشرافي مكتمل، وحل سحري تحقق بالفعل برؤية حكومية ثاقبة. هذه الرواية الشعبية تقفز فوق كل العقبات العلمية، وتتجاهل التكاليف الفلكية، وتتغاضى عن المخاطر الجيولوجية، لتكشف عن مسافة هائلة تفصل بين الطموح الوطني العام وبين الحقائق الصارمة التي لا تزال تجعل من منخفض القطّارة أحد أكثر الملفات التنموية إثارة للجدل، وأبعدها عن الحلول السهلة.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة