رهان القاهرة المحفوف بالمخاطر.. هل ينجو الاتفاق النووي الإيراني؟

في التاسع من سبتمبر الجاري، تحولت الأنظار إلى القاهرة، التي استضافت اختراقَا دبلوماسيًا هامًا في واحد من أكثر الملفات الدولية تعقيدًا وشحنًا بالتوتر. في قصر التحرير، وبعد وساطة مصرية مكثفة استمرت لثلاثة أشهر، وقّع وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي والمدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل جروسي، اتفاقًا يهدف إلى استئناف التعاون بين الجانبين فيما يتعلق بالملف النووي الإيراني.

لم تكن هذه مجرد مصافحة بروتوكولية، بل كان تتويجًا لجهود مضنية لنزع فتيل أزمة كانت تهدد بإشعال حرب إقليمية واسعة النطاق، خاصةً وأنها جاءت بعد أشهر من الجمود الكامل الذي أعقب مواجهة عسكرية مباشرة في يونيو الماضي، شملت ضربات إسرائيلية وأمريكية لمنشآت نووية إيرانية حيوية في فوردو ونطنز وأصفهان، ورد عسكري من طهران.

هذه المواجهة لم توقف فقط المفاوضات غير المباشرة التي كانت ترعاها سلطنة عمان بين طهران وواشنطن، بل أشعلت كذلك حربًا كلامية بين كبار المسؤولين في إيران وإسرائيل، مما رفع منسوب الخطر إلى أقصى درجاته.

لكن الاتفاق، الذي رعته القاهرة بشكل مباشر، نزع فتيل المواجهة ولو مؤقتًا. ومع ذلك، فإنه يطرح أسئلة جوهرية حول طبيعة بنوده، ودوافع الأطراف الرئيسية للانخراط فيه، والتحديات الهائلة التي لا تزال تعترض طريقه.

الاتفاق الإطاري: بنود غامضة وآليات مؤجلة

عند تحليل “اتفاق القاهرة”، يتضح أنه ليس تسوية نهائية بقدر ما هو “إطار تقني” مصمم بعناية ليحتمل تفسيرات متعددة، مما سمح لكلا الطرفين بتقديمه كانتصار. فمن جهة، احتفى رافائيل جروسي بالاتفاق باعتباره خطوة هامة تضمن عودة المفتشين، مؤكدًا في فيينا أن الوثيقة الموقعة تشمل “كل المنشآت والبنى التحتية في إيران” وتلزم طهران بتقديم تقارير كاملة عن جميع المرافق المتضررة والمواد النووية فيها. وقد رحبت أطراف دولية مثل السعودية والصين وروسيا بالاتفاق، معتبرة إياه خطوة إيجابية نحو الحلول الدبلوماسية.

لكن من جهة أخرى، قدمت طهران رواية أكثر حذرًا، حيث أكد عباس عراقجي أن الاتفاق “لا يسمح حاليًا للمفتشين بدخول المواقع النووية الإيرانية” إلا في حدود ضيقة، وأن صيغة التعاون الجديدة “تعترف بالمخاوف الأمنية المشروعة لإيران”. أما الاتحاد الأوروبي، فقد أعرب عن قلقه البالغ لعدم قدرة الوكالة على تحديد كميات ومواقع اليورانيوم عالي التخصيب، ودعا إلى التنفيذ السريع للاتفاق.

الدكتور محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية "أفايب" (وكالات)
الدكتور محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب” (وكالات)

جوهر الاتفاق يكمن في التزام إيران بتقديم تقرير شامل حول مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%، لتبدأ بعده مفاوضات حول “آلية للتعامل” تسمح بالتحقق.

الغموض يكتنف البنود الفعلية، وهو ما يؤكده الدكتور محمد محسن أبو النور، رئيس المنتدى العربي لتحليل السياسات الإيرانية “أفايب”، بقوله: “لا تزال بنود استئناف المفاوضات غير معروفة. فلم يتم الكشف عنها لأن أيًا من الأطراف الثلاثة -الوكالة الدولية للطاقة الذرية ومصر وإيران- لم يعلن عن البنود المحددة، وخاصة مسودة الأحكام الأساسية للاتفاق بين إيران والوكالة”.

ويأتي ذلك، والحديث لا يزال لأبو النور، على الرغم من أن عباس عراقجي، في مقابلة مع التلفزيون الإيراني، صرح بأن البنود تتعلق بعدم قيام أوروبا بإعادة تفعيل آلية الزناد مرة أخرى، وهو التزام من جروسي الذي وقع على الاتفاق.

هذا الشرط الإيراني الحاسم، الذي يربط استمرار الاتفاق بعدم فرض أي “إجراء عدائي” أو تفعيل عقوبات “سناب باك”، يجعله إطارًا هشًا يعتمد بشكل كلي على حسن النوايا المتبادلة في بيئة تفتقر إليها بشدة.

📋  نقاط رئيسية في اتفاق القاهرة


  • إطار تقني: ليس اتفاقًا نهائيًا، بل آلية لبناء الثقة واستئناف الحوار التقني.

  • التزام إيراني: تقديم تقرير شامل للوكالة الدولية حول مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 60%.

  • مفاوضات لاحقة: بعد تسليم التقرير، تبدأ مفاوضات جديدة لتحديد آلية التحقق ودخول المفتشين.

  • شرط أساسي: ربط إيران استمرار تعاونها بعدم تفعيل آلية “سناب باك” للعقوبات من قبل الأطراف الأوروبية.

دوافع الوساطة المصرية: استعادة الدور وحماية المصالح

لم تكن مبادرة مصر للوساطة مجرد رد فعل دبلوماسي، بل كانت تحركًا استراتيجيًا عميقًا مدفوعًا بمزيج من المصالح الوطنية الملحة والطموح لاستعادة دورها الإقليمي المحوري. يوضح الدكتور أبو النور، في حديثه مع فَكّر تاني، أن “القاهرة ستواصل جهود الوساطة بين إيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وكذلك مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويأتي ذلك في إطار حرص القاهرة على منع تفاقم التوترات الإقليمية بين إيران والمجتمع الدولي لتتحول إلى ذرائع قانونية قد تستخدمها إسرائيل لشن حملة عسكرية جديدة ضد إيران، على غرار ما فعلته صباح 13 يونيو من العام الماضي”.

فمصر تدرك أن أي تصعيد عسكري واسع النطاق في المنطقة سيهدد بشكل مباشر أمن الملاحة في البحر الأحمر وقناة السويس، شريانها الاقتصادي الحيوي الذي تأثر بالفعل بهجمات الحوثيين المدعومين من إيران. كما أن موقف القاهرة المبدئي من قضايا نزع السلاح النووي، وسعيها لإنشاء منطقة خالية من السلاح النووي منذ عام 1974، يمنحها مصداقية أخلاقية وسياسية في هذا الملف.

لذلك، تسعى القاهرة جاهدة لمنع تدهور الوضع، أولاً بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية، ثم بين إيران وأوروبا والولايات المتحدة. والدليل على شمولية هذا النهج، كما يضيف أبو النور، هو أننا “رأينا وزير الخارجية المصري الدكتور بدر عبد العاطي يجري محادثات مع ستيف ويتكوف، المبعوث الأمريكي الخاص للشؤون الإيرانية. وهذا يدل على أن مصر تريد التواصل مع جميع الأطراف لاستدامة تنفيذ الاتفاق بين إيران والوكالة، وإدامة الحلول الدبلوماسية والسياسية، ومنع تصعيد الأمور إلى عمليات عسكرية كما حدث في يونيو الماضي”.

هذا النجاح الدبلوماسي لم يكن ممكنًا لولا التقارب المدروس الذي حدث مؤخرًا بين القاهرة وطهران، والذي بنى جسرًا من الثقة سمح لمصر بلعب هذا الدور. فبعد عقود من القطيعة التي بدأت عام 1979، شهدت العلاقات تحسنًا تدريجيًا، تسارعت وتيرته في الأشهر الأخيرة بفضل لقاءات وزارية ورئاسية.

“القاهرة لم تكن لتتدخل في مثل هذا الملف ما لم تكن قد حصلت على تعهدات نهائية وحاسمة من الجانب الإيراني، تعبر عن رغبة في التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة.”
— د. محمد محسن أبو النور

ويجيب أبو النور على سؤال حول قدرة القاهرة على تثبيت الاتفاق بالإيجاب، موضحًا: “فالقاهرة لم تكن لتتدخل في مثل هذا الملف ما لم تكن قد حصلت على تعهدات نهائية وحاسمة من الجانب الإيراني، تعبر عن رغبة في التوصل إلى تسوية شاملة وعادلة. ويقترن ذلك بتقدير إيران للدور النزيه للغاية الذي تلعبه مصر في هذه القضية. لذلك، تحرص إيران هذه المرة على الاستفادة من رأس المال السياسي والثقل الجيوستراتيجي الذي تتمتع به القاهرة للتوصل إلى حلول دبلوماسية لملفها النووي المعروف”.

الرئيس المصري يستقبل كلا من جروسي وعراقجي في أعقاب تقارب مدروس مع طهران (وكالات)
الرئيس المصري يستقبل كلا من جروسي وعراقجي في أعقاب تقارب مدروس مع طهران (وكالات)

حسابات طهران: براجماتية الضرورة في مواجهة العزلة

قرار إيران بالانخراط في وساطة القاهرة لم يكن نابعًا من تحول استراتيجي في عقيدتها، بقدر ما كان مناورة تكتيكية فرضتها ضغوط داخلية وخارجية هائلة. يصف الباحث الإيراني سعيد جولكار، أستاذ مشارك في العلوم السياسية بمؤسسة جامعة كاليفورنيا، الوضع بدقة حين يقول إن قرار إيران “ينبع في المقام الأول من اليأس، وليس من انفتاح حقيقي. مع استئناف العقوبات السريعة خلال أيام، وتقرير الوكالة الدولية للطاقة الذرية الحاسم المقرر صدوره قريبًا، يتعرض النظام لضغوط هائلة”.

الباحث الإيراني سعيد جولكار أستاذ مشارك في العلوم السياسية بمؤسسة جامعة كاليفورنيا
الباحث الإيراني سعيد جولكار أستاذ مشارك في العلوم السياسية بمؤسسة جامعة كاليفورنيا

في قلب هذه الضغوط، تكمن ديناميكيات معقدة داخل أروقة السلطة الإيرانية، حيث يلعب الحرس الثوري دورًا حاسمًا. يوضح جولكار، الذي تركز أبحاثه على البنية الأمنية والعسكرية في إيران: “أصبح الجيل الأكبر سنًا من المتشددين، المتجذرين في الاقتصاد والمستشريين في الفساد، أكثر براجماتية، حيث يُعطي الأولوية لبقاء النظام على الأيديولوجية… على النقيض من ذلك، يعتبر المتشددون الأصغر سنًا، وخاصة في الرتب الدنيا، هذا الأمر إذلالًا وخيانة. حتى أن الكثيرين بدأوا ينتقدون خامنئي علنًا، مما يشير إلى تصدعات في سلطته التي كانت في السابق لا تُمس”.

هذه الضغوط الداخلية الهائلة التي تمارسها هيئات تشريعية ورقابية متعددة كالبرلمان ومجلس خبراء القيادة ومجلس صيانة الدستور، تجعل مهمة المفاوض الإيراني صعبة للغاية. ويشير أبو النور إلى أنه “لا يتمتع بالحرية اللازمة، على الرغم من أن الوزير عباس عراقجي أقر بأن أمين عام المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، الدكتور علي لاريجاني، يدعمه ويساند جهوده الدبلوماسية”.

ومع ذلك، يضيف أبو النور، “من المهم أيضًا التأكيد على وجود ضغوط داخلية من وسائل الإعلام والمجالس التشريعية والنيابية ضد التعاون مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، لأنها لم تدن العدوان الإسرائيلي والأمريكي على المنشآت النووية الإيرانية في يونيو الماضي.

“لا أعتبر هذا براجماتية بالمعنى التقليدي، بل مناورة تكتيكية… تنازلات قصيرة الأجل تهدف إلى كسب الوقت.”

— سعيد جولكار

في ظل هذا الواقع، يرى جولكار، وهو مستشار أول في منظمة متحدون ضد إيران النووية (UANI)، في حديثه مع فَكّر تاني، أن ما تقوم به طهران ليس براجماتية حقيقية، بل هو تطبيق لمفهوم المرشد الأعلى عن “المرونة البطولية”، فيقول: “لا أعتبر هذا براجماتية بالمعنى التقليدي، بل مناورة تكتيكية… تنازلات قصيرة الأجل تهدف إلى كسب الوقت”.

“يتيح التوجه إلى القاهرة لإيران تنويع قنواتها الدبلوماسية وتخفيف الضغط الفوري، لكنه لا يمثل تحولًا حقيقيًا في السياسة. في جوهره، تحاول القيادة ببساطة النجاة من الفترة المتبقية من إدارة ترامب، معتقدةً أن التغييرات السياسية المستقبلية في واشنطن وتل أبيب أو أي مكان آخر قد توفر ظروفًا أكثر ملاءمة”، يشرح جولكار منظوره لنهج القيادة الإيرانية.

وبنظرة ناقدة ومتشائمة، يشدد على أن الجمهورية الإسلامية هي “نظام جامد أيديولوجيًا، أنتج كوادر موالية لما يقرب من نصف قرن… ما لم يُتح موت خامنئي فرصة نادرة لخليفة أكثر اعتدالًا، فلا أتوقع تحولًا جذريًا حقيقيًا. باختصار، أرى هذا توقفًا تكتيكيًا، وليس تحولًا استراتيجيًا. النظام يلعب على الوقت ولا يُعيد النظر في مساره”.

صورة وزعها مكتب المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي تظهره وهو يحضر حفل تخرج مشترك للطلاب العسكريين في طهران، 10 أكتوبر 2023. (KHAMENEI.IR / AFP).
صورة وزعها مكتب المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي تظهره وهو يحضر حفل تخرج مشترك للطلاب العسكريين في طهران، 10 أكتوبر 2023. (KHAMENEI.IR / AFP).

طريق محفوف بالمخاطر: اتفاق ضروري لكنه غير كافٍ

مارك فيتزباتريك الزميل المشارك في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS
مارك فيتزباتريك الزميل المشارك في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS

على الرغم من الترحيب الدولي والإقليمي بالاتفاق، إلا أن جميع الأطراف تدرك أنه يمثل مجرد بداية هشة لمسار طويل ومحفوف بالتحديات. يضع مارك فيتزباتريك، الزميل المشارك في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS، الأمور في نصابها. فبينما كان “خبرًا سارًا” عندما توصلت إيران وهيئة الطاقة الذرية إلى اتفاق بشأن استئناف عمليات التفتيش، ويُقدَّر دور مصر في تسهيل ذلك، إلا أنه يشير إلى أن “غياب جدول زمني يثير القلق”.

ومع ذلك، يتوقع فيتزباتريك في حديثه لـ فَكّر تاني “استئناف عمليات التفتيش الكاملة دون تأخير كبير، لأن إيران تواجه مهلة نهائية صعبة في نهاية سبتمبر قبل بدء سريان عقوبات الأمم المتحدة”. لكن العقبة الأكبر والأكثر تعقيدًا تكمن في أن هذا الإنجاز التقني ليس كافيًا بحد ذاته.

“اتفاق القاهرة كان شرطًا ضروريًا ولكنه ليس كافيًا، لتجنب المزيد من التصعيد.”

— مارك فيتزباتريك

يكشف فيتزباتريك عن شرط حاسم آخر “عمليات التفتيش ليست الشرط الوحيد الذي وضعته بريطانيا وفرنسا وألمانيا لتأجيل عقوبات إعادة فرض العقوبات. إذ يتعين على إيران أيضًا الموافقة على استئناف المفاوضات مع الولايات المتحدة، وهو أمر قد يكون إشكاليًا”. هذا الشرط يرفع سقف المطالب بشكل كبير ويضع عبئًا إضافيًا على الاتفاق الهش.

ويخلص فيتزباتريك إلى أن اتفاق القاهرة “كان شرطًا ضروريًا ولكنه ليس كافيًا، لتجنب المزيد من التصعيد”. بالإضافة إلى ذلك، تظل هناك تحديات جوهرية، أبرزها أزمة الثقة العميقة بين طهران والغرب، والضغط المستمر من التيار المحافظ في إيران الذي يرى في أي تعاون تنازلاً، والتهديد الأوروبي الدائم بتفعيل آلية “سناب باك”.

كما يستبعد مراقبون أن تتنازل إيران عن مسألة تخصيب اليورانيوم التي تعتبرها خطًا أحمر، وهناك خطر دائم من أن تنسحب من معاهدة عدم الانتشار النووي إذا تم تفعيل العقوبات بالكامل.

لقد نجحت مصر في تحقيق إنجاز دبلوماسي لافت، وأبعدت المنطقة مؤقتًا عن حافة الحرب، لكن بقاء هذا الاتفاق على قيد الحياة يعتمد الآن على قدرة جميع الأطراف على تجاوز عقود من العداء والشكوك، وهو رهان لا يزال محفوفًا بالمخاطر.

للاطلاع على تقارير أخرى للكاتب.. اضغط هنا

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة