في صيف عام 2007، عندما غادر توني بلير مقر رئاسة الوزراء في “داونينج ستريت” بعد عشر سنوات من السلطة، كان يُعتقد أن مسيرته السياسية الكبرى قد انتهت. الرجل الذي ارتبط اسمه بغزو العراق إلى جانب الولايات المتحدة، بدا وكأنه سيبقى أسيرًا لسمعته المثيرة للجدل. لكن السنوات التالية أثبتت أنه ليس مجرد رئيس وزراء سابق يبحث عن تقاعد مريح، بل صانع نفوذ عالمي أعاد تقديم نفسه لاعبًا محوريًا في قضايا الشرق الأوسط.
اليوم، وبعد نحو عقدين من مغادرته السلطة، يعود اسم بلير إلى قلب واحدة من أكثر القضايا حساسية في المنطقة: مستقبل غزة بعد الحرب. إذ أشار حضوره المفاجئ في البيت الأبيض بجوار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وصهره جاريد كوشنر إلى أن الرجل ما زال يمتلك مفاتيح أبواب خلفية في السياسات الإقليمية والدولية.
وخطط إعادة إعمار غزة وتحويلها إلى ما يشبه مشروع “ريفييرا شرق أوسطية”، بما في ذلك أفكار عمّا يسمى “إعادة توطين طوعي” للفلسطينيين مقابل تعويضات مالية، كشفت عن الدور الخفي الذي يلعبه بلير في غرف التخطيط غير الرسمية.
لكن هذه العودة لم تكن معزولة عن سياق أوسع. فمنذ مغادرته رئاسة الوزراء، نسج بلير شبكة معقدة من العلاقات تضم مؤسسات فكرية وعقود استشارية مع حكومات خليجية وصفقات مع صناديق سيادية، إلى جانب نفوذ شخصي يمزج بين الاقتصاد والسياسة.
لقاء البيت الأبيض وخطط “ريفييرا” المريبة
في أواخر أغسطس الماضي، اجتمع ترامب بصحبة صهره ومستشاره السابق كوشنر في المكتب البيضاوي مع توني بلير لمناقشة مستقبل غزة بعد الحرب المدمرة. اللقاء الذي حضره أيضًا نائب الرئيس جي دي فانس ووزير الخارجية ماركو روبيو استمر أكثر من ساعة، وتمحور حول تصورات لإعادة إعمار القطاع.
ما كشفته تقارير صحفية لاحقًا أن الاجتماع لم يقتصر على الجوانب الإنسانية أو الأمنية، بل تناول أفكارًا أكثر راديكالية، على رأسها تحويل غزة إلى “ريفييرا” بمشروعات ضخمة ومناطق صناعية ذكية، وتمويل خليجي واسع.
المشروع الذي أطلق عليه إعلاميًا “ريفييرا غزة” اقترح إعادة توطين عشرات الآلاف من الفلسطينيين مؤقتًا خارج القطاع مقابل تعويضات مالية وإيجارات مدفوعة، قبل إعادتهم لاحقًا. وبينما روّج مؤيدوه للفكرة باعتبارها حلًا عمليًا يفتح الطريق للاستثمارات ويعيد بناء غزة على أسس حديثة، وصفها النقاد بأنها “محاولة مقنّعة للتطهير العرقي”.
وأشارت واشنطن بوست إلى أن الخطة شملت أسماء لمشروعات ضخمة مثل “حلقة محمد بن سلمان” و”مركز محمد بن زايد”، في إشارة واضحة إلى التمويل الخليجي المتوقع. يقول نيل كويليام، زميل مشارك في برنامج الشرق الأوسط بمعهد “تشاتام هاوس” ومقره لندن، إن بلير بنى علاقات راسخة مع دول الخليج منذ عام 2010، “ولعب دورًا محوريًا في مساعدتها على تطوير وسائل تحقيق الأهداف الطموحة التي حددتها رؤاها الوطنية”.
وبذلك، “بنى علاقات شخصية طويلة الأمد مع قادة الخليج الذين ما زالوا يضعون ثقتهم الكبيرة فيه، وهذا ما يميز مؤسسته للتغيير العالمي عن غيرها من الشركات الاستشارية”، يوضح كويليام لـ فَكّر تاني.
معهد “توني بلير للتغيير العالمي” الذي أسسه عام 2016 كان قد تورط سابقًا في مشاورات مع شركات استشارية مثل مجموعة بوسطن الاستشارية BCG ورجال أعمال إسرائيليين حول خطة اقتصادية لغزة، رغم نفي المؤسسة أي مشاركة مباشرة في فكرة التوطين أو مشاريع الإخلاء. ووجود بلير على الطاولة بجوار ترامب وكوشنر بدا امتدادًا لهذه الشبكات الخفية، لا انفصالًا عنها.
إذ يهدف المشروع إلى تحويل القطاع إلى منطقة سياحية واقتصادية شبيهة بدبي أو لاس فيجاس، وقد نُشر له فيديو مولد بالذكاء الاصطناعي سابقًا من قبل ترامب. وعرض فيل رايلي، ضابط وكالة المخابرات المركزية السابق، المشروع على توني بلير في مارس الماضي. وعلى الرغم من إنكار مؤسسة توني بلير مشاركتها المباشرة في تأليف الخطة أو دعم إعادة التوطين، إلا أنها اعترفت بأن موظفيها راجعوا المخطط الاقتصادي الذي أُعدّ لعرضه على شخصيات في إدارة ترامب ودول خليجية.
يعتبر كويليام أن دعوة بلير إلى المناقشات تكشف عن حقيقتين: “أولًا، الخطة نفسها جوفاء وتحتاج إلى مفكر استراتيجي مثل بلير لإثراءها بالأفكار؛ ثانيًا يواجه البيت الأبيض صعوبة في إقناع قادة الخليج بخطة المشاركة الزمنية، ويأمل أن تُسهم علاقات بلير معهم في استقطابهم. بعبارة أخرى، يبدو إشراك بلير -وهو قائدٌ من الماضي- بمثابة يأس”.
يرى المفكر الفلسطيني ورئيس جامعة القدس الأسبق، سري نسيبة، في حديثه مع فَكّر تاني أن بلير لا يمكن أن يأتي منه أي خير أو منفعة “لقد بدا دائمًا أكثر اهتمامًا بمكانته وماله. ومعظم الفلسطينيين لا يحبونه ولا يثقون به”.
هذا الشعور يجد صداه في رؤية المحلل السياسي، طلال أبو ركبة، الذي أكد أن مستقبل القطاع لم يعد شأنًا فلسطينيًا خالصًا، بل أصبح قضية إقليمية ودولية، قائلاً إن “كل ما يتم طرحه بخصوص مستقبل القطاع يأتي من أطراف غير فلسطينية، وهذا نتيجة مباشرة لحالة الانقسام والتشظي في الساحة السياسية الفلسطينية”.
ومع ذلك، شدّد في حديثه مع فَكّر تاني على أن الفلسطينيين يحتفظون بسلاح الرفض “أي محاولات من بلير لرسم ملامح غير فلسطينية ستُواجَه بممانعة قوية، حتى لو لم يمتلك الفلسطينيون القدرة على صياغة رؤية بديلة كاملة”.

مؤسسة بلير العالمية: مختبر سياسات أم واجهة نفوذ؟
بعد خروجه من السلطة، أعاد بلير ابتكار نفسه عبر تأسيس “معهد التغيير العالمي” عام 2016، وهو مؤسسة غير ربحية بحسب التعريف الرسمي، لكنها تحولت سريعًا إلى ما يشبه الذراع الاستشاري العالمي. يعمل المعهد مع أكثر من أربعين حكومة، ويضم مئات الموظفين، ويركز على قضايا الحوكمة والاقتصاد والتحول الرقمي.
التقارير التي نشرها المعهد حاولت رسم صورة جديدة للشرق الأوسط. ففي دراسة بعنوان “فكّر مرة أخرى: داخل تحديث الشرق الأوسط الجديد“، استند المعهد إلى استطلاعات رأي في مصر والعراق والسعودية ولبنان وتونس، ليخلص إلى أن غالبية الشعوب تدعم برامج الإصلاح الاقتصادي وترفض الحركات السياسية الدينية. هذه النتائج قدمت مادة مثالية لتسويق فكرة أن المنطقة تسير نحو “عصر تحديث جديد” يتجاوز الصراعات التقليدية.
لكن وراء هذه اللغة الإصلاحية تكمن شبكة مالية وسياسية معقدة. فقد كشفت فاينانشال تايمز أن المؤسسة حصلت على تمويل بملايين الجنيهات من السعودية لتمويل مشاريع إصلاح اقتصادي، فيما ذكرت الجارديان أن المؤسسة استمرت في العمل مع الرياض حتى بعد مقتل جمال خاشقجي، ما أثار جدلًا واسعًا حول طبيعة هذه الشراكة.
في الإمارات أيضًا، ربطت تقارير بين المعهد وبين مشاريع الحوكمة الرقمية والاستثمارات السيادية، مما عزز صورة المؤسسة كوسيط يجمع بين الاستشارات الفكرية والمصالح الاقتصادية.
اللافت أن بعض موظفي المعهد شاركوا في اتصالات مع شركات استشارية أمريكية ورجال أعمال إسرائيليين بخصوص مشاريع غزة. ورغم نفي المؤسسة أي دور في فكرة التوطين أو التطهير العرقي، إلا أن مجرد تورطها في هذه المناقشات أثار شكوكًا حول الحدود بين البحث الأكاديمي والهندسة السياسية.
بهذا المعنى، لم يعد المعهد مجرد مركز فكري، بل واجهة لشبكة نفوذ أوسع. وقد دافع بلير دائمًا بأن العمل مع الأنظمة القائمة يتيح “الدفع التدريجي نحو الإصلاح”، لكن النقاد رأوا أن المؤسسة تحولت إلى أداة لتبييض سمعة أنظمة استبدادية، مستخدمة لغة التحديث كغطاء لمصالح سياسية وتجارية.
جعلت التجربة العراقية عام 2003 اسم توني بلير مثيرًا لمخاوف الفلسطينيين الذين يرونه “عراب القوى الاستعمارية”، وفق تعبير أبو ركبة. فقد ارتبط بأفكار تقسيم العراق وفرض الحاكم العسكري، “ما يعزز القناعة بأنه لن يخدم المصالح الفلسطينية في أي خطط لإعادة الإعمار، بل سيُوجّهها بما يتماشى مع الترتيبات الأمنية الإسرائيلية”.

الاستشارات الخاصة: من قصور الخليج إلى كازاخستان
خارج المؤسسة، نسج بلير شبكة عقود شخصية مباشرة مع حكومات خليجية. في السعودية، حصل على عقود بملايين الجنيهات لتقديم استشارات مرتبطة برؤية 2030. في الإمارات، ارتبط بعقد مع صندوق مبادلة السيادي تجاوز مليون جنيه استرليني سنويًا. هذه العقود لم تكن مجرد خدمات استشارية، بل فتحت أمام بلير أبواب العواصم الخليجية لتأمين نفوذ سياسي مباشر.
الأكثر إثارة للجدل، بحسب الجارديان، كان ارتباطه بشركة “بتروسعودي” المملوكة لأمير سعودي، حيث تقاضى راتبًا ثابتًا وعمولات على الصفقات بينما كان لا يزال يشغل منصب مبعوث الرباعية للشرق الأوسط، ما فجّر فضيحة تضارب مصالح في بريطانيا.
كما لعب في مصر، وفق تقارير، دورًا في تقديم نصائح اقتصادية بالتعاون مع فرق استشارية دولية، خصوصًا في مجالات الغاز والطاقة شرق المتوسط، رغم نفي وجود عقد رسمي مباشر.
هذه الأنماط من العقود لم تكن مجرد مصدر دخل هائل، بل وفّرت له منصات إقليمية يمرر عبرها ترتيبات أوسع. فبفضل نفوذه في الخليج، شارك في دفع اتفاقيات أبراهام للتطبيع بين إسرائيل وعدة دول عربية، واستغل موقعه لربط المشاريع الاقتصادية بالترتيبات السياسية. ففي حواره عام 2021 مع “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى”، أكد بلير أن الشرق الأوسط يحتاج إلى “تكامل اقتصادي” يربط إسرائيل بدول الخليج، مشيدًا باتفاقيات أبراهام كخطوة أولى.
فيما يثير نمط عمله تساؤلات عميقة حول طبيعة دوره الحقيقي. ففي كازاخستان، أشارت تقديرات صحيفة الديلي ميل إلى أن الرئيس الكازاخي نور سلطان نزارباييف أنفق أكثر من 20 مليون جنيه إسترليني (29.1 مليون دولار أمريكي) للحصول على خدمات بلير.
وقد تعرض بلير لانتقادات بعد اتهامات بـ”تبييض” صورة وسجل حقوق الإنسان للنظام في كازاخستان، وكشفت رسالة حصلت عليها صحيفة تلجراف في أغسطس 2014 أن بلير قدم نصائح للحد من الأضرار لنزارباييف بعد مجزرة جاناوزين (مظاهرات واسعة أدت إلى مقتل عشرات الأشخاص وإصابة الآلاف) في ديسمبر 2011.

الإرث والتموضع الجديد: كيف تُرسم دوائر النفوذ؟
من خلال هذه الشبكات، أعاد بلير تعريف موقعه في النظام الدولي. لم يعد رجل سياسة تقليديًا، بل عقدة محورية تجمع بين مختبرات الأفكار والعقود التجارية والصلات الخليجية، بحيث يمكن فهم استراتيجيته عبر ثلاث دوائر متداخلة.
الدائرة الأولى هي المعمل الفكري، أي المؤسسة التي تحمل اسمه، وتقدم للحكومات حزم تحديث تجمع بين التحول الرقمي وإدارة الأداء والحوكمة التقنية. هذه اللغة التكنولوجية تغطي على أجندة سياسية أعمق، وتُستخدم لتسويق السلام الاقتصادي كبديل للتسوية السياسية.
أما الدائرة الثانية فهي القنوات الخليجية، حيث يؤمّن بلير التمويل والغطاء السياسي لمشاريعه، مستفيدًا من علاقاته الوثيقة بالرياض وأبوظبي. هذه القنوات مكنته من التأثير في ملفات إقليمية حساسة، من اتفاقيات التطبيع إلى ترتيبات الغاز في شرق المتوسط.
وفي الدائرة الثالثة تظهر الصفقات الخاصة التي تمزج الاقتصاد بالسياسة، مثل عمله مع “بتروسعودي” أو تورطه في مشاريع إعادة إعمار غزة عبر رجال أعمال إسرائيليين وأمريكيين. وهنا يُعاد تعريف مفهوم السلام ليصبح مشروع تطوير عقاري ومناطق حرة أكثر من كونه تسوية سياسية قائمة على الحقوق والسيادة.
لكن هذه الاستراتيجية تواجه قيودًا قوية. فغياب الشرعية الفلسطينية يجعل أي ترتيبات غير قابلة للاستدامة. وتضع التحفظات المصرية والأردنية حدودًا واضحة للتدخلات الخارجية في غزة. والأهم أن الرأي العام الفلسطيني يظل عنصرًا حاسمًا في رفض أي ترتيبات تتجاوز الحلم الوطني، فكما يقول أستاذ العلوم السياسية أبو ركبة “أي مبادرة لا تأخذ المشروع الوطني الفلسطيني في الاعتبار ستفشل مهما زخرفتها المليارات”.
وهنا، تكشف تجربة بلير عن ملامح جديدة في ممارسة السلطة بعد المنصب الرسمي. لم يعد السياسي السابق يعيش على محاضرات مدفوعة أو مقالات رأي، بل صار صانع نفوذ يدمج بين الاستشارات والعلاقات التجارية والسياسية. وحضوره الأخير في البيت الأبيض ليس استثناءً، بل جزءًا من مسار طويل يعيد تعريف الدبلوماسية ويتجاوز الحدود التقليدية بين القطاعين العام والخاص.
“إن مكانة بلير العامة وشخصيته وغروره تعني أن الخطوط الفاصلة بين الدبلوماسية العامة والاستشارات الخاصة معرضة للخطر دائمًا، خاصةً عندما يطلب قادة العالم تدخلاته”، يشير كويليام الباحث في تشاتام هاوس.
ويضيف أن بلير لا يحظى بشعبية كبيرة لدى الرأي العام البريطاني وفي جميع أنحاء الشرق الأوسط “قد تكون علاقاته مع قادة المنطقة قوية، لكنه لن يتخلص أبدًا من انعدام الثقة العميق الذي يشعر به الكثيرون تجاهه، وحضوره اجتماع البيت الأبيض لن يؤدي إلا إلى الإضرار بصورة بريطانيا ودورها في الشرق الأوسط، ومنح رئيس الوزراء كير ستارمر الضوء الأخضر له سيزيد الطين بلة”.
يؤكد طلال أبو ركبة أن الشرط الأساسي لأي طرح دولي أو إقليمي يتعلق بالمستقبل الفلسطيني هو أن يراعي الحلم الوطني والمشروع الفلسطيني المتمثل في إقامة الدولة القابلة للحياة والمتصلة والمتواصلة بين الضفة الغربية والقطاع.
ويضيف “لا يمكن لتوني بلير فعليًا أن يساهم في ملف إعادة الإعمار وإدارتها بشكل يحقق المصالح والاحتياجات الفلسطينية الحقيقية، بل غالبًا ما سيوجهها بما يحقق المصالح والترتيبات والاحتياجات الأمنية الإسرائيلية”.
كما يحذر الباحث الفلسطيني من أزمات مرتقبة في ملف مستقبل القطاع أبرزها “حالة الانقسام السياسي وغياب وحدة الحال والمصير الفلسطيني” و”الموقف العربي المجزأ والمقسم” و”صمت دولي رهيب” تجاه السياسات الإسرائيلية.
“أي رد فعل فلسطيني على أي مبادرة لإعادة الإعمار لن تكون منسجمة ما لم تأخذ هذه المبادرات الحلم الوطني أو المشروع الفلسطيني نحو مصيره الحقيقي الذي ناضل الفلسطينيون من أجله منذ أكثر من مئة عام”، يختتم الباحث الغزاوي.
