العالم بدون “أدولف نتنياهو” 1-2

مثلما يتشدَّق مجرم الحرب الإسرائيلي؛ “بنيامين نتنياهو” بأنه يؤدي مهمة مُقدَّسة، كان الزعيم النازي “أدولف هتلر” يردد المقولة ذاتها.

في المشهد الأول من فيلم “إرادة المنتصر” الذي أُنتِج في ثلاثينيات القرن الماضي، تحط طائرة على أرض مطار مدينة “نورمبرج” جنوبي ألمانيا، وما هي إلا ثوانٍ حتى يهبط “الفوهرر” سلالمها بخطواته المتشنجة.

يُحيِّ الجماهير المحتشدة بتحية النازية الشهيرة، مرسلًا إليهم نظراته الحادة، عابس الوجه متجهمًا، ثم يستقل سيارة سوداء، فيتوَّجه لرئاسة مؤتمر حزبه في المدينة التي تستمد قيمتها المعنوية، من أنها كانت عاصمة غير رسمية للأباطرة الرومانيين المُقدَّسين، في العصور الوسطى.

الرسائل الرمزية لم تكن مُشوَّشة غائمة؛ كانت واضحة كالشمس في كبد السماء.

الصهيونية الهرتزلية

عمدت الدعاية النازية إلى تقديم “هتلر” باعتباره “المنذور” الذي أرسلته عناية الله، لاستنهاض روح الأمة الألمانية، واسترداد التفوق الذي يجب أن يستأثر به العرق الجرماني الآري؛ خالق الحضارة، كما كان يقول.

على المنوال ذاته نسجت الصهيونية أفكارها الأيديولوجية، منذ الإرهاصات المبكرة لسرقة فلسطين، بدءًا من انعقاد مؤتمر “بازل” بسويسرا عام 1897، برئاسة الصحفي اليهودي النمساوي؛ تيودور هرتزل، الأب الروحي للحركة الصهيونية، مرورًا بالنكبة، وما رافقها ثم تلاها من “محارق” بعد “محارق” اصطلى الفلسطينيون نيرانها.

التشابه أو قل -بغير مجافاة للحقيقة- التطابق بين “هتلر” و”نتنياهو”، يرجع إلى شخصيتهما، بقدر ما يرجع أيضًا إلى جذور الفكرتين؛ النازية الهتلرية والصهيونية الهرتزلية.

الفكرة القومية الاستعلائية في النازية، لا تعدو إلا أن تكون غلالة رقيقة تُواري ما تحتها من وحشية بغيضة، والعقيدة الإلغائية في الصهيونية لا تختلف قيد أنملة عن ذلك.

مقارنة جمال حمدان الصارخة

هذه الحقيقة عبَّر عنها الراحل الكبير الدكتور جمال حمدان في “شخصية مصر” بكلمات عميقة وإن كانت موجزة: “إن الصهيونية هي النازية الجديدة، وهما وجهان لعملة واحدة، فكما رفعت النازية شعار الجنس الآري، رفعت الصهيونية شعار شعب الله المختار”.

نتنياهو مجرم حرب وفق القرارات القضائية الدولية ولكنه يواصل ارتكاب جرائمه يوميا دون رادع - تصميم بالذكاء الاصطناعي - فكر تاني
نتنياهو مجرم حرب وفق القرارات القضائية الدولية ولكنه يواصل ارتكاب جرائمه يوميا دون رادع – تصميم بالذكاء الاصطناعي – فكر تاني

والمثير أن السفاحين؛ “هتلر” و”نتنياهو” لم يُعرف عنهما التديَّن في حياتهما الشخصية، لكنهما توخيا تسييس الدين، وتجيير نصوصه انتقائيًا لخدمة مشروعهما الإجرامي.

وفق المؤرخ البريطاني، صاحب الباع الطويل في دراسة النازية؛ “إيان كيرشو” فإن “هتلر” تعامل مع المسيحية تعاملًا استغلاليًا، واعتبرها أداة دعائية فعَّالة لاستمالة الجماهير، وعلى حين كان يستهزئ بالدين في جلساته مع خلصائه وخاصته، كان عكس ذلك يستدعي نصوص الكتاب المقدس، في خطبه التعبوية أمام الجماهير.

كتاب “أحاديث هتلر السرية” لـ”هنريك هاين” وهو من مساعدي سكرتير “هتلر” الخاص، يكشف عن أن “الفوهرر” كان يردد: “المسيحية خرافة اخترعها ضعاف العقول”، لكنه في سيرته الذاتية: “كفاحي” لم يستكف عن أن يقول: “إنني أتصرّف وفق مشيئة الخالق القدير، فحينما أدافع عن نفسي ضد اليهود، فإنني أقاتل من أجل الرب”.

البرجماتية السياسية باسم الـ”هلاخاه”

كذلك نتنياهو ينحدر إلى أسرة يهودية قومية غير متدينة، فأبوه “بن تسيون”، كان مؤرخًا علمانيًا، وينتمي إلى مدرسة “فلاديمير جابوتنسكي” مؤسس الصهيونية التصحيحية، ولم يُعرف عن الابن كأبيه إقبالا على الطقوس، أو احترامًا للشعائر، بل إنه لم يقدِّم نفسه في الأصل باعتباره ملتزمًا بـالـ”هلاخاه” أي الشريعة اليهودية، وكثيرًا ما تعارضت قراراته معها، ومن ذلك مثلًا قراره فتح الأسواق أيام السبت رغم رفض المتدينين اليهود.

لكن نتنياهو رغم ذلك، لا يكف عن استدعاء الخطاب الديني حين يحتاجه، كما حدث حين خطب أمام الكونجرس الأمريكي عام 2015: “أرض إسرائيل هي الميراث الأبدي للشعب اليهودي الذي منحه الله لنا”، أو حين صرَّح لصحيفة “تايمز أوف إسرائيل” بعد “طوفان الأقصى” مباشرةً: “نحن أبناء النور، وهم أبناء الظلام، نحن نقاتل عدوًا متوحشًا، الله معنا، وسننتصر”.

أما كيف ستنتصر إسرائيل على أبناء الظلام المتوحشين؟

يجيب نتنياهو بالعبرية: “بياد هاشيم”.. أي بيد الله.

الديكتاتورية “زي الكتاب ما بيقول”

يعدُّ نتنياهو نموذجًا كلاسيكيًا للديكتاتور الدموي، أو بتعبير شعبوي: يطبق الديكتاتورية “زي الكتاب ما بيقول”، مقتفيًا في ذلك عتاة الطغاة، مثل الأسباني “فرانكو” الذي كان يردد أنه “يقود البلاد بنعمة الله”، والسوفيتي “ستالين” الذي كان يستخدم عبارة الأرض المقدسة، وأعاد فتح الكنائس لتعبئة الجماهير إبَّان الحرب العالمية الثانية، رغم أنه كان ملحدًا، ذلك بجانب شبيهه الأقرب “هتلر”.

على ذلك فليس غريبًا أو مُنبَّت الصلِّة بالواقع، أن يربط مفكرون وفلاسفة وسياسيون بين السفاحيَّن النازي والصهيوني.

منذ أسابيع، ذهب الرئيس التركي “أردوغان” إلى أن “نتنياهو” وشركاءه -أو وفق تعبيره شبكته الإجرامية- قد تجاوزوا وحشية “هتلر”، وما يجري في غزة أسوأ من المحرقة، وزاد “لا يمكن لإنسان لديه ذرة من الكرامة، أن يقف صامتًا إزاء قتل الأبرياء يوميًا، جراء الجوع والعطش”.

صورة من مظاهرة في إسبانيا لنتنياهو ويداه ملطختان بالدماء في إشارة إلى حرب الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة (رويترز)
صورة من مظاهرة في إسبانيا لنتنياهو ويداه ملطختان بالدماء في إشارة إلى حرب الإبادة التي يرتكبها جيش الاحتلال في غزة (رويترز)

لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يدلي فيها “أردوغان” بمثل هذا الكلام، وإن كان كلامه المكرر، لم يُترجم إلى فعل واقعي، إلا حينما قطع العلاقات مع تل أبيب مؤخرًا على إثر تقاطع مصالحه مع المطامع الإسرائيلية في سورية، التي يعدها حديقته الخلفية، وليس اعتراضًا على حرب الإبادة في غزة.

كذلك هو “أردوغان” بدوره؛ زعيم شعبوي وسياسي برجماتي، يُحسن استثارة مشاعر مؤيديه الذين يوغل فريق منهم في الحماقة إلى أبعد مدى، فيعدونه خليفة المسلمين في هذا الزمان.. والله أكبر ولله الحمد!

بعيدًا عن الخليفة المزعوم، الذي عهدناه يقول ما لا يفعل، ويفعل ما لا يقول، فإن الرئيس الفنزويلي “نيكولاس مادورو” كذلك، كان عقد المقارنة بين النازي الألماني والنازي الصهيوني، حين قال في وصف الأخير: “إنه مجنون وإنني أراه هتلر العصر”.

وعلى المنوال ذاته قال الرئيس الكولومبي “جوستاف بيترو”: إن عمليات الإبادة في غزة توازي محرقة النازية”.

لكن الرجل لم يكتفِ بالإدانة اللفظية، فقطع العلاقات مع دولة الاحتلال، وأعلن فوق ذلك أن بلاده ستعترض أي سفينة فحم متجهة إلى إسرائيل، الأمر الذي يعري سوءات أنظمة عربية وإسلامية، تستنكف حتى عن تجميد علاقاتها الاقتصادية مع الاحتلال.

إلى جوار ذلك لم تتردد الخبيرة الحقوقية في الأمم المتحدة؛ “فرانشيسكا ألبانيز” في وصم مجرم الحرب الإسرائيلي بـ”الهتلرية”، حين أيَّدت منشورًا على مواقع تواصل يعزّز المقاربة ذاتها.

وفي المنشور الذي دفع به “كريج مخيبر”، مسؤول حقوق الإنسان الذي استقال من الأمم المتحدة، اِحتجاجًا على تقاعس المنظمة إزاء جرائم التطهير العرقي في غزة، تظهر صورة “هتلر” محاطًا بحشود من مؤيديه، مع صورة لمجرم الحرب الإسرائيلي.

علقت “ألبانيز”: “هذا بالضبط ما فكرت فيه اليوم”، فانتفضت الصهيونية ولم تقعد، وسرعان ما انقضت دوائرها الإعلامية والسياسية على السيدة التي صدحت بالحق بمنتهى الشجاعة، فاتهمتها بمعاداة السامية.

كذلك تُخرج إسرائيل تهمة معاداة السامية من غبار التاريخ لإسكات كل ذي صوت يستقبح جرائمها، في أي بقعة على وجه الأرض، لكن “ألبانيز” لم تولِ الأدبار، إذ ردت: “إن ما يبدو غضبًا أخلاقيًا تجاهي هو غضب انتقائي”.

في ميزان الضمير العالمي

أما على المستوى الشعبي، فإن “الضمير الإنساني العالمي”، مع مراعاة أن هذا المصطلح أدنى لواقع الحال من مصطلح الرأي العام العالمي، يميل إلى الاتفاق على أن “نتنياهو” هو صورة مستنسخة من “هتلر”.

في مايو الماضي، انتهت فنانة إيطالية من رسم جرافيتي على جدار مدرسة في العاصمة روما، يصوِّر “هتلر” و”نتنياهو” معًا، وهما يتبادلان القبلات.

الرسم الذي حمل عنوان “الحل النهائي” أحدث صدمة شديدة الوَقْع في الأوساط السياسية والإعلامية الإيطالية.

وبطبيعة الحال لم تسلم الفنانة التي تدعى “لايكا” من سهام تهمة “معاداة السامية”، لكنها ردت: “إن غزة تتعرَّض لتطهير عرقي، وبعد قتل عشرات الآلاف ستأتي مرحلة التهجير”، مضيفة “هذه ستغدو النهاية البائسة لمبادئ حقوق الإنسان”.

بذلك لا تقتصر خطورة “نتنياهو” على الإنسانية، في كونه ديكتاتورًا كلاسيكيًا، وسفاحًا لا يرتوي مهما سفك من الدماء، بل في أن جرائمه التي يراها العالم رأي العين، ويسكت عنها متواطئًا ومؤيدًا أو عاجزًا وخائفًا، تدق مسمارًا كبيرًا في نعش القانون الدولي والعدالة، ومبادئ حقوق الإنسان، بما سيؤدي حتمًا إلى تحويل الحياة الإنسانية إلى غابة يأكل فيها القوي الضعيف.

صحيحٌ أن العالم ليس فردوسًا أخلاقيًا، ولم يكن في أي مرحلة أخلاقيًا، لكن كان هنالك دائمًا سقف للوحشية.

هذا السقف يتصدع الآن تصدعات تنذر بانهياره، على رأس الحياة الإنسانية بأسرها.. والسبب “نتنياهو”، والسبب إسرائيل، كلاهما معنى واحد.

مؤكدٌ أن العالم كان سيغدو أفضل كثيرًا، لو لم يكن فيه “نتنياهو”، ولو لم تكن إسرائيل، لكن كذلك هي الحياة الدنيا، فكما فيها أشرار ومجرمون وسفاحون، فيها طيبون يقاومون مؤمنين بأن الرذيلة لن تنتصر في النهاية على الفضيلة.

وللحديث صلة.

 

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة