وعن أسماك المنزلة.. كيف نفقت؟

لم يكن فجرًا عاديًا على ضفاف بحيرة المنزلة. فمع خيوط النور الأولى، لم يستقبل الصيادون رزقًا وفيرًا اعتادوه، بل مشهدًا مأساويًا: آلاف الأسماك، خاصةً من نوع الدنيس، كانت تطفو بلا حراك على سطح الماء، فيما ألقت موجات أخرى بأنفسها على الشاطئ كأنها تلفظ أنفاسها الأخيرة.

لم تكن مجرد خسارة يوم عمل، بل شرارة أشعلت جدلًا واسعًا وأثارت أسئلة مقلقة حول السبب الحقيقي وراء هذا الموت الجماعي.

كيف سيؤثر ذلك على مستقبل أسعار أحد أهم مصادر البروتين الحيواني في مصر؟ وما مصير بحيرة استثمرت فيها الدولة قبل 7 سنوات فقط لتطويرها وإثرائها بأنواع جديدة من الأسماك؟

كان سؤالًا عن أسماك المنزلة.. كيف نفقت؟

الشمس.. متهمة في رواية حكومية

لفهم حجم الكارثة، تجب الإشارة إلى طبيعة المنزلة، التي تمتد على مساحة 404 كيلومترات مربعة بين محافظات بورسعيد والدقهلية دمياط، وتشترك في حدودها الشرقية مع قناة السويس. وهي رئة أساسية للثروة السمكية في مصر، حيث تضخ وحدها نحو 48% من إنتاج البحيرات سنويًا، بما يقترب من 60 ألف طن. ويشكل سمك البلطي، الأكثر شعبية، حوالي 45% من هذا الإنتاج الضخم.

وزارة الزراعة قدمت تفسيرها الرسمي لظاهرة نفوق الأسماك بالمنزلة. قالت إن ما حدث هو “ظاهرة طبيعية” سببها التغيرات المناخية وموجات الحرارة القياسية. فالأسماك كائنات ذات دم بارد، تتأثر بشكل مباشر وفوري بارتفاع حرارة المياه.

ووفقًا للوزارة، فإن الأنواع البحرية المستزرعة في مصر مثل الدنيس والقاروص، وهي الضحية الأبرز لهذه الحادثة، تعيش بشكل مثالي في مدى حراري بين 20 و24 درجة مئوية. وأي زيادة عن هذا الحد تؤثر سلبًا على نموها وتضعف قدرتها على مقاومة الأمراض والتغيرات في كيمياء المياه.

على العكس تمامًا يتحمل “البلطي” ذو الأصول الإفريقية التكيف درجات حرارة أعلى تصل إلى 30 درجة مئوية، وهو ما يفسر نجاته النسبية، وفق الدراسات.

الخطر على باقي الأنواع لا يكمن في الحرارة فقط. فمع ارتفاعها، ينخفض مستوى الأكسجين المذاب في الماء، بينما ترتفع نسبة الأمونيا السامة، وهو خليط قاتل يسبب إجهادًا شديدًا للأسماك، خاصةً في بيئة المزارع ذات الكثافة العالية، وفق ما أعلنته “الزراعة”.

وماذا عن “المد الأحمر”؟

هكذا كانت الرواية الحكومية الرسمية، لكنها ليست الوحيدة في هذه القضية. إذ يبدي الدكتور معاطي قشطة الأستاذ بالمعهد القومي للبحوث الزراعية، تحفظًا واضحًا على هذا التفسير بالمناخ. ويقول إن المشكلة الحقيقية من وجهة نظره لم تأتِ من السماء، بل من تدخل بشري مباشر أدى إلى تسميم مياه البحيرة.

والخطأ الأول، بحسب قشطة، كان “المبالغة في فتح البواغيز والقنوات الشعاعية التي تصل مياه البحر بالبحيرة”. هذا الإجراء، الذي تم بلا تحكم، رفع نسبة الملوحة إلى درجة أعلى حتى من مياه البحر نفسها.

والملح لم يكن القاتل الوحيد، كما يوضح قشطة. فالخطر تفاقم بسبب مصادر تغذية البحيرة الملوثة، مثل مصرف بحر البقر ومصارف زراعية أخرى (السرو، وحادوس، ورمسيس).

ويوضح أستاذ المعهد القومي للبحوث الزراعية أن المياه الداخلة إلى البحيرة سحبت في طريقها مياه صرف المزارع الغنية بالأمونيا، وهي مركب كيميائي سام. هذا الخليط القاتل من الملوحة الشديدة والأمونيا خلق بيئة مثالية لنمو “الطحالب الحمراء المميتة”، وهي الظاهرة التي تُعرف علميًا بـ “المد الأحمر”.

هذه الطحالب الميكروسكوبية، التي حولت أجزاءً من البحيرة للون الأحمر، تسببت في نقص حاد بالأكسجين، ما أدى إلى اختناق الأسماك ونفوقها وإحداث خسائر فادحة.

المشكلة إذن “في جودة المياه وليست ارتفاع الحرارة”، كما يلخص قشطة رؤيته.

حين يتجاوز الخطر حدود المنزلة

سواء كان المتهم هو حرارة الشمس أم تلوث المياه، فإن النتيجة واحدة: كارثة تكشف عن تهديد أكبر. هذا ما يراه إسماعيل الشرقاوي نائب رئيس حزب العدل للشؤون الزراعية، الذي يعتبر أن نفوق أسماك المنزلة هو “جرس إنذار حقيقي” وليس مجرد حادث موسمي عابر. فالتهديد، بحسبه، يتجاوز حدود البحيرة ليطال “الأمن الغذائي في مصر” بشكل صريح.

لسنوات، حذرت الدراسات من أن تغير المناخ سيرفع حرارة المياه ويزيد حمضيتها، ما سيؤثر حتمًا على نوعية وكمية الأسماك في البحيرات الشمالية. ويؤكد الشرقاوي أن الأزمة الحالية تضعنا أمام واقع جديد يتطلب أدوات جديدة، ونهجًا استباقيًا للخروج من “الدائرة المفرغة” لردود الفعل المتأخرة.

تأتي هذه الدعوة في وقت يُظهر فيه أداء مصر المناخي صورة متباينة. فوفقًا لمؤشر أداء تغير المناخ (CCPI) لعام 2021، ورغم حصول مصر على تصنيف “مرتفع” في خفض الانبعاثات، إلا أنها حصلت على تصنيف “متوسط” في سياسة المناخ، و”منخفض جدًا” في مجال الطاقة المتجددة، كما أنها لم تضع بعد هدفًا محددًا لانبعاثات عام 2050، رغم إطلاقها استراتيجية لتغير المناخ خلال مؤتمر COP26.

هنا، يحدد الشرقاوي عدة أولويات للخروج من هذه الدائرة:

– أولًا، الاستثمار الحقيقي في البنية التحتية للمزارع السمكية، عبر إدخال أنظمة التهوية والتبريد الحديثة.

– ثانيًا، عدم ترك المزارعين وحدهم، وتوفير دعم مباشر وتعويضات فورية للمتضررين، مع إطلاق حملات توعية شاملة.

– ثالثًا، تعزيز التنسيق بين الجهات المعنية والبحثية لاتخاذ قرارات قائمة على العلم، والانفتاح على القطاع الخاص لتطوير نظم استزراع مستدامة.

والهدف، كما يشدد خبير السياسات الزراعية، هو بناء نظام يضمن “الوقاية، لا الاكتفاء بالعلاج المؤقت”.

هل ترتفع الأسعار؟.. السوق يجيب

يبقى السؤال الأهم للمواطن في هذه الأزمة: هل ستؤثر هذه الكارثة على أسعار السمك في الأسواق؟

مسؤول بوزارة الزراعة يجيب بالنفي. ويؤكد أن الكميات النافقة بالبحيرة تخص مزارع سمكية على أطرافها، ولن تنعكس على الأسعار. ويوضح المسؤول – في حديثه لـ فَكّر تاني – أن غالبية الأسماك النافقة كانت من أصناف الدنيس واللوت، وهي أسماك مرتفعة الثمن واستهلاكها محدود مقارنةً بالبلطي الشعبي. وقد تم التخلص من هذه الكميات بالكامل ومنع تسربها للأسواق.

ويضيف المسؤول أن المشكلة انحصرت في بحيرة المنزلة وحدها، بينما لم تتأثر باقي البحيرات أو إنتاج المزارع السمكية الضخم في المحافظات. كما أن الإنتاج المصري يتميز بالتنوع الكبير بين البحيرات، والمزارع، ونهر النيل، والبحر المتوسط.

هذه الرؤية المتفائلة يدعمها السوق نفسه.

إذ تتوقع شعبة الأسماك بغرفة القاهرة التجارية تراجع أسعار الأسماك بنسبة قد تصل إلى 20% مع بدء موسم الصيد الجديد، الذي يبدأ في 15 سبتمبر المقبل ويستمر حتى 15 مايو. وتشهد هذه الفترة عادةً زيادة كبيرة في المعروض، ما يؤدي لانخفاض الأسعار مقارنةً بفصل الصيف.

ويرى محمد حلمي عضو شعبة الأسماك، أن نفوق أسماك بحيرة المنزلة لن يؤثر على حجم المعروض أو مستويات الأسعار. ويعزو ذلك، في تصريحاته لـ فَكّر تاني، إلى تعدد مصادر الصيد الأخرى التي تغطي احتياجات السوق، من نهر النيل والبحرين الأحمر والمتوسط، إلى بحيرتي قارون والبردويل، بالإضافة للأسماك المستوردة.

لكن حلمي يختتم بوضع شرط ضروري. ويطالب في ظل هذا التنوع الكبير في المعروض، بوجود جهاز رقابي فعال لمتابعة الأسعار وضمان جودة المنتج، مع فرض رقابة صارمة لضمان سلامة المستهلك.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة