لم تكن مصر يومًا أرضًا باردة أو مناخها معتدلًا على مدار العام، فقد عرفناها دائمًا بشتاء دافئ وصيف حار وجوٍّ جاف يتخلله نسيم النيل وظلال النخيل وأشجار الجميز واللبخ والكافور التي لطالما غطت المدن والقرى بغطاء أخضر ينعش الصدر ويطهر الهواء من شوائب التلوث.
لكنّ مصر التي نراها اليوم لم تعد هي نفسها؛ فالمناخ اختل، والحرارة ارتفعت بشكلٍ غير مسبوق، والهواء اختنق، والغبار بات يملأ الرئات. وما السبب؟ لقد قُطِعَت الأشجار.

مذابح للأشجار بقرار محلي
شهدت مصر خلال السنوات الماضية مجازر ممنهجة للأشجار في مختلف المحافظات، لا سيما في العاصمة القاهرة ومحافظات الدلتا.
قرارات محلية وحكومية غريبة أطاحت بعشرات الآلاف من الأشجار بدعوى “توسعة الطرق”، و”التطوير الحضاري”، و”إزالة الإشغالات”، أو “تحسين المظهر الجمالي”!

المفارقة أن التطوير أصبح معناه تقطيع الأشجار بدلًا من دمجها في المشهد الحضري الحديث، وكأننا أمام رؤية عمرانية ترى في الطبيعة عدوًا للتقدم.
هذه الممارسات لم تراع الأثر البيئي الكارثي المترتب عليها، ولم تستند إلى دراسات علمية أو بيئية، ولم تشرك المتخصصين أو تستمع لنداءات المجتمع المدني أو خبراء المناخ والبيئة الذين طالما حذّروا من هذه السياسات، لكن للأسف “لا حياة لمن تنادي”.
ماذا فعلت الأشجار بنا لنقتلها؟
الأشجار ليست زينة ولا رفاهية، بل ضرورة حياتية لا تقل عن الماء والهواء.
إنها أجهزة تنفس كبرى تطلق الأوكسجين وتمتص ثاني أكسيد الكربون، وتعمل كمصدات للغبار والدخان، وتخفض درجات الحرارة، وتقلل من الضوضاء، وتمنح المدن توازنًا بيئيًا واقيًا من التقلبات المناخية. حينما تُقطع الأشجار، لا نفقد مجرد مناظر جميلة، بل نفقد درعًا واقيًا من الجحيم المناخي.

لقد سجلت الهيئة العامة للأرصاد الجوية المصرية ارتفاعًا غير مسبوق في درجات الحرارة خلال صيف السنوات الأخيرة، حيث تخطت الحرارة في بعض المناطق حاجز 45 درجة مئوية، وهو رقم لم تعهده مصر تاريخيًا بهذا التواتر.
كما ارتفعت نسب تلوث الهواء بشكلٍ لافت، خاصةً في المناطق الحضرية التي أُبيدت فيها الأشجار، وصارت جدرانًا صماء من الأسمنت والأسفلت، تمتص الحرارة وتعكسها، وتحبس الملوثات بين شوارعها.
الحرائق في صدورنا لا على الأشجار فقط
ليست درجات الحرارة وحدها ما يوجع المصريين، بل أيضًا تدهور جودة الهواء الذي نتنفسه، وزيادة حالات الأمراض التنفسية، خاصةً بين الأطفال وكبار السن، ناهيك عن التأثيرات النفسية لغياب المساحات الخضراء، والتي لطالما كانت متنفسًا للناس البسطاء، ملاذا للعائلة، ومأوى للطيور.
كم من حديقة صغيرة أُزيلت لتتحول إلى موقف سيارات؟ كم من شارع جميل بكافوراته العتيقة تحول إلى طريق خرساني خانق؟ كم من ميدان كان ظلّه طريًا صار باحة حارقة بلا ظل ولا روح؟! إن جريمة قطع الأشجار لا تُحسب بالأمتار، بل تُقاس بأعمارنا وصحتنا ومستقبل أولادنا.
الجهل البيئي وصانع القرار
الكارثة الكبرى ليست فقط في القطع، بل في أن من يصدر هذه القرارات غالبًا لا يدرك قيمة ما يقطع.
الجهل البيئي في صانع القرار مأساة تعادل كارثة بيئية مستمرة. فصاحب القرار لا يسأل خبيرًا، ولا يُجري تقييمًا بيئيًا، ولا يحتكم إلى استراتيجية وطنية متكاملة لإدارة الغطاء الأخضر، بل يرى الأشجار عوائق، ويظن أن “الخرسانة” دليل حضارة، ويُسخّر الإعلام للتبرير، وكأننا نعيش على كوكب آخر.
كم ناشدنا! كم كتبنا وحذرنا وبكينا على أرصفة الشوارع التي تجرد من جمالها ورونقها! ناشدنا المسؤولين أن يتوقفوا عن هذا العمل الإجرامي ضد البيئة، ضد الوطن، ضد المستقبل، لكن “كأنك تنفخ في قربة مقطوعة”.
من يدفع الثمن؟

الثمن يدفعه المواطن الفقير، الساكن في المناطق الحضرية الحارة، الذي لا يملك تكييفًا، ولا يقدر على فواتير الكهرباء، ولا يستطيع الهروب من حرارة الصيف، ولا يعرف سوى التعرق والاختناق، والثمن يدفعه الطفل المصاب بحساسية صدر، والمرأة الحامل التي تبحث عن هواء نقي، والشيخ العجوز الذي جلس عمره تحت شجرة تم إعدامها.. الجميع يعاني.
نحن من يدفع الثمن، لا من أصدر القرار.
والأخطر أن هذا الثمن مستمر ومتراكم، فآثار التغير المناخي لا تتوقف عند حدود ارتفاع الحرارة، بل تمتد لتشمل اضطراب الزراعات، انخفاض جودة المحاصيل، زيادة استهلاك الطاقة، بل ونزوح بيئي داخلي من المناطق الحارة والمختنقة إلى أخرى أقل ضغطًا.
العالم يزرع.. ونحن نقطع!
في الوقت الذي تتسابق فيه دول العالم على زيادة الرقعة الخضراء، وتتبنّى برامج ضخمة لتشجير المدن ومكافحة التغير المناخي، نجد أنفسنا نخوض الحرب عكسيًا.
الصين زرعت ملايين الأشجار في الصحراء، والهند أطلقت حملات تشجير هائلة بمشاركة الشعب، وباريس قررت تحويل الشوارع إلى غابات حضرية، بينما نحن نُبيد ما تبقى من ظل.
إن ما يجري في مصر من سياسات عمرانية تقطع ولا تزرع، تهدم ولا تبني، هو انعكاس لانفصال القرار عن العلم، وانفصام السلطة عن الواقع، وهي سياسات يجب أن تتوقف فورًا، ليس فقط إنقاذًا للبيئة، بل حفاظًا على ما تبقى من حياة.

هل من أمل؟
الأمل لا يموت. هناك أصوات حرة تقاوم، ومبادرات شعبية تحاول الزرع مكان القطع، وجمعيات مدنية لا تزال توثق وتفضح، وهناك جيل شاب بدأ يعي أهمية البيئة، لكنه يحتاج إلى مساحة وحرية وقدوة.
والأمل في أن تتشكل إرادة سياسية وطنية حقيقية تدرك أن التحدي البيئي هو تحدي وجود، وأن أي نهضة عمرانية بدون بيئة سليمة هي وهم مؤقت.
نحتاج إلى قانون صارم لحماية الأشجار، وإلى لجان تقييم بيئي تُلزم قبل أي تطوير عمراني، ونحتاج إلى تعليم بيئي في المدارس، وإلى إعلام لا يُبرر الخراب بل يكشفه.
ما نعيشه اليوم من تلوث وحرارة واختناق ليس قدرًا محتومًا، بل نتيجة مباشرة لسياسات خاطئة، قرارات بلا وعي، وممارسات جائرة ضد الطبيعة. وآن الأوان أن ندرك أن حماية الشجرة ليست رفاهية، بل ضرورة بقاء.
لنزرع بدل أن نقطع.. لنحمي بدل أن نهدم.. لنعش بدل أن نختنق.
