في قلب القاهرة الخديوية، حيث تمتزج أصالة المباني بسحر لا ينسى، وفي شارع محمود بسيوني أمام مقهى “جروبي” العريق، لافتة قديمة على واجهة إحدى العمارات، تحمل اسم “مخبز حلواني عجايبي – منذ سنة 1970”.
للوهلة الأولى، تجذبك البوابة الخشبية للمخبز، المحتفظة بتراثها الذي يمتد لعقود. وبمجرد أن تطأ قدماك عتبته، تجد نفسك محاطًا بثلاجات وأرفف تصطف عليها مخبوزات تحمل طعم ورائحة زمان، من البقسماط والسميط إلى المعجنات التي اعتاد عليها أبناء الحي منذ الصغر. كل ركن في أرجاء المكان يحكي قصة خاصة، من الحوائط الطوبية المستطيلة، إلى صور السيد عجايبي، المستأجر القديم، التي تزين الجدران وتنقلك بين شبابه وكبره، لتشعر أن العمر يمر كلمح البصر.
في أحد الأركان، يقف الميزان القديم شاهدًا على الزمن، يكيل قطع البيتزا والفطائر. كل تفصيلة في المخبز تأخذك إلى عالم آخر، كأنك انفصلت عن صخب الشارع وزمنه الحالي. مزيج من الأصالة والأسعار المناسبة، جعل المكان وجهة مفضلة للموظفين والسياح على حد سواء. هنا، تتجول عيناك بين أصناف المخبوزات، بينما لا تنقطع عن أذنيك أصوات الأغاني القديمة المنبعثة من مذياع عتيق، تُزيد الأصالة رونقًا وبهاءً.

هنا، حيث الإدارة تؤول اليوم لـ “الست جيهان عجايبي”، لا يختلف الحال كثيرًا عن بقية محال المنطقة التي غزاها القلق وسيطر على نفوس أصحابها التفكير في مستقبل مجهول، بعدما أقر مجلس النواب بشكل نهائي تعديلات قانون الإيجار القديم.
مواطنون فئة “مستأجرين”
هذا القانون، الذي يهدد استمرارية “مخبز عجايبي” وغيره من المحال والمنشآت التاريخية، من الناحية القانونية يفرض زيادة فورية وكبيرة على المستأجرين؛ حيث تحدد المادة (5) منه زيادة القيمة الإيجارية إلى خمسة أمثال قيمتها الحالية، ثم تتبعها، وفقًا للمادة (6)، زيادة سنوية تلقائية بنسبة 15%. وبعد فترة انتقالية مدتها خمس سنوات، يؤول العقار إلى المالك.
ومع ذلك، فمن الناحية السياسية، الوضع لا يزال معلقًا، إذ رغم موافقة مجلس النواب النهائية على القانون، لا يزال غير مكتسب لصفته التنفيذية بعد، حيث لم يصدق عليه رئيس الجمهورية حتى الآن.
ويزيد من حالة الترقب صدور قرارين جمهوريين بفض دور الانعقاد العادي لمجلسي النواب والشيوخ اعتبارًا من 9 يوليو 2025، ما يترك مصير القانون في حالة من الغموض، بين انتظار الملاك للتوقيع، ومناشدات المستأجرين للرئيس بعدم التصديق عليه.
في الجانب الآخر، لا يقتصر تأثير القانون على المحال التجارية فقط، بل يمتد ليضرب قطاعات خدمية حيوية. وقد أثار ضررًا كبيرًا في أوساط المهن الطبية، مما دعا “اتحاد نقابات المهن الطبية” إلى إصدار بيانات رسمية تناشد فيها الرئيس السيسي إعادة مشروع القانون إلى مجلس النواب، والدعوة إلى حوار مجتمعي موسع يحفظ التوازن ويحمي العيادات الخاصة والصيدليات التي تخدم ملايين المواطنين.
اقرأ أيضًا: 63 مترًا من الذكريات.. و7 سنوات من الخوف (حكايات الإيجار القديم)
“عجايبي” على ما آل إليه حالي
خلف جدران المخبز التاريخي، تتحول أرقام القانون ومواده إلى قلق حقيقي يطرق أبواب السيدة جيهان عجايبي، التي اضطرت للنزول إلى العمل بعد وفاة شقيقها لتصبح مسؤولة عن هذا الإرث.

بعينين زائغتين يطل منهما الخوف على مستقبلها ومستقبل شقيقاتها الأرامل، تقول “الست جيهان” لـ فكر تاني: “المخبز بسترزق منه أنا وأخواتي. احنا 4 سيدات أرامل، في مننا بياخد معاش لكن أنا ماليش، وزوجي متوفي”. يكاد دخل المخبز يكفيها وشقيقاتها لتغطية نفقات المعيشة في ظل الغلاء الراهن، فضلًا عن أنه يعيل ثمانية عمال وبيوتهم التي ستُغلق إذا أُجبرت على الإغلاق. “اللي بيطلع من المخبز يدوب بيكفي عشان نقدر نعيش”.
تدرك السيدة جيهان أن إمكانياتها المحدودة لا تسمح لها بمنافسة الماركات الكبرى التي تملأ وسط البلد، فمنتجاتها بسيطة وأساسية. “شغلي بسيط لأني في منطقة موظفين وبيحبوا يفطروا بالسميط، كمان العيش بتاعي البلدي القديم يدوي وليس آلي”. لكن القلق الأكبر لا يتعلق بالمنافسة، بل بمصير المعدات والأفران القديمة التي تحتضنها الغرفة الملحقة بالمخبز، والتي تعتبرها جزءًا لا يتجزأ من المكان.
تعقد حاجبيها بنظرة خائفة وتتساءل: “ماعنديش مشكلة بأن المالك يرفع القيمة الإيجارية بصورة معقولة تتناسب مع دخلي، لكن أروح فين بعد 5 سنوات؟ المعدات دي كلها والثلاجات والمبردات أروح بيها فين؟ ده خراب بيوت”.
وتضيف بنبرة تكشف حجم المعاناة اليومية: “احنا يا دوب بنكفي نفسنا، أوقات بقعد بالساعة ما يدخلش زبون خاصة بعد الظهر، يعني لو دخل 7 زبائن يبقى حلو أوي”.
صراع الحقوق في مواجهة إرث الزمن
بينما تقف السيدة جيهان في أرجاء مخبزها، مثبتةً عينيها للحظات على صورة والدها المعلقة على الحائط، كأنها تسترجع ذكريات زمن كان فيه البال أكثر طمأنينة، يتجسد أمامنا جوهر الصراع. فالقضية تتجاوز مجرد نزاع بين مالك ومستأجر، لتصبح مواجهة بين الحقوق الاقتصادية المشروعة وبين حماية إرث اجتماعي وتاريخي حي، تمثله أماكن مثل “مخبز عجايبي”.

إن مصير هذا المكان الصغير في قلب القاهرة يطرح سؤالًا أكبر حول هوية المدن وتطورها: هل يجب أن يفسح التاريخ الطريق لرأس المال دون ضوابط؟ أم يمكن إيجاد صيغة تضمن حقوق الملاك في الحصول على عائد عادل، دون أن يترتب على ذلك “خراب بيوت” وتشريد عمال، وتفريغ وسط المدينة من طابعها الفريد الذي صنعته على مدار عقود؟
تهمس السيدة جيهان بنبرة حزينة وتنهيدة تنبثق منها مخاوف الحياة، وتلخص بها مناشدة آلاف المتضررين: “أتمنى من الله أن ينظر المسؤولون عن هذا الأمر للمواطن البسيط والأسر المتوسطة، وعدم طردهم من أماكن عملهم وتشريدهم وتعرضهم للهلاك في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي نمر بها”.
تبقى هذه المناشدة معلقة، تمامًا كمصير القانون نفسه، شاهدةً على صراع لم يُحسم بعد، حيث يتأرجح مستقبل “عجايبي” وأمثاله بين توقيع رئاسي منتظر، وحلم بالعدالة يحفظ الحقوق دون أن يمحو الذاكرة.
