63 مترًا من الذكريات.. و7 سنوات من الخوف (حكايات الإيجار القديم)

ما تزال عقارب الساعة المعلّقة في غرفة الحاجة فتحية تشير إلى الثانية عشرة إلا خمس دقائق. لم تتحرك منذ أن توقف قلب زوجها عن النبض. لم تُصلِحها، ولم تستبدلها، فقط تركتها كما هي.. شاهدة على لحظة لم تغادرها.
في بيت لا تتجاوز مساحته 63 مترًا، توقفت أشياء كثيرة، لكن الحياة بعنادها اللطيف لم تتوقف. مشت على رؤوس أصابعها بين الأركان، تهمس للجدران، وتغرس في الزوايا ذكرى جديدة.

كل صباح، كانت تترك أثرًا: ضحكة حفيد ينطق أولى كلماته، أو رائحة شاي يغلي بهدوء، أو دعاء خافت يملأ الغرفة قبل طلوع الشمس. حتى الصمت هنا لم يكن فراغًا، بل ذاكرة تُحاك بخيط ناعم في نسيج الأيام. ورغم أن الساعة على الجدار لم تعد تمشي، فإن الوقت ظل يتحرك.. يكتب حكايته دون أن ينتظر أحدًا.

 

قانون لا يفهم لغة العمر

فوق الكنبة التي تُفرَد كل مساء لتتحوّل إلى سرير، جلست فتحية تتابع شاشة التلفزيون الصغيرة المثبتة في زاوية الغرفة. الإضاءة خافتة، والصوت بالكاد يُسمع، لكن العبارة المتحرّكة أسفل الشاشة أربكت قلبها: “مناقشة تعديلات قانون الإيجار القديم.. سبع سنوات مهلة للإخلاء”.

ارتجّ القلب الذي لم يعد يخفق وحده، بل صار ينبض بإرادة سبعة قلوب اتحدت من أجلها. جهاز صغير بحجم كفّ اليد، مزروع في صدرها، يضبط الإيقاع كلما خانته الدقات. اشترى ثمنه أبناؤها، اقتسموه كما اقتسمت يومًا رغيف الخبز بينهم، فعلّقوا به حياة أمهم، كي لا تتوقف. لكن ما لم يستطع الجهاز تنظيمه “الخوف الجديد”.. خوفها من أن تُنتزع منها المساحة التي تحفظ نبضها أكثر من أي طبيب.

شدّت طرحتها على كتفيها، وأمالت جسدها قليلًا لتفتح الشباك نصف المغلق. مرّ نسيم ساخن من الشارع، لم يُبرد قلقها. عادت بعينيها نحو الشاشة، ثم إلى الساعة المتوقفة. كأن الزمن قرر أن يتآمر معها على البقاء. لم تفهم الحاجة فتحية التفاصيل القانونية التي تُقال. الكلمات تمر كأنها لغة غريبة لا تعرفها لكنها حين سألت حفيدها: “يعني إيه يا أدهم؟ هيعملوا فينا إيه؟”، أجاب الصغير، ببراءة لا تخلو من قلق: “يعني يا تيتا.. بعد سبع سنين، ممكن يقولولِك تسيبي الشقة”.

صمتت لثوانٍ، عيناها معلقتان بالشاشة، ثم همست: “يعني خلاص؟ هيقولوا لي أمشي بعد العمر ده كله؟”. قالتها بصوت منخفض، كأنها تحاول أن تقنع قلبها بأن القانون لن يطرق بابها، وأن البيت الذي عاش فيه قلبها نصف قرن، لن يصبح يومًا غريبًا عنها.

من شباك صغير في الدقي

في كل صباح، وقبيل السابعة بدقائق، يبدأ شارع جانبي هادئ في حي الدقي بالاستيقاظ على وقع خطوات العمال وأصوات كنس الأرصفة. وفي المشهد نفسه منذ ستين عامًا، تطل فتحية من نافذتها الخشبية المطلية بلون أخضر باهت. أطراف الشباك تآكلت من كثرة ما فُتح وأُغلق، وصريره صار علامة مألوفة لسكان الشارع. تسند ذراعها على الحافة، وتشُدّ طرحتها الرمادية بعناية فوق رأسها، كأنها تستقبل الصباح بطقوسه المعتادة وذاكرته الطويلة.

“أنا هنا من وأنا عندي 18 سنة، سكنت وأنا عروسة صغيرة، خجولة، بالكاد تعرف كيف تُدير بيتًا ..كنت بخاف أتكلم، مش عارفة أطبخ ولا أشتري حتى غيار ملاية، وجيت على شقة متواضعة، بس كان فيها راحة ربنا”.

 تبتسم قليلًا: “جوزي كان بيقولي: المرة الجاية نكبر الشقة.. وكل مرة كنا بنفرشها بزيادة حب، مش زيادة عفش. وكبرت، وكبر البيت معايا.. خلفت سبعة، وربيتهم هنا، وعلمتهم، وجوزتهم واحد واحد، ووش الأوضة شافهم وهما لابسين بدلهم وفستاينهم ونازلين من على السلم”. تشير إلى “الطرقة”، ذلك الممر الضيق الذي يفصل الغرفتين، وتقول: “كل عيل من عيالي عدّى من هنا في يوم فرحه. البلكونة كانت مفتوحة، بنزينها بلمبات، والبنات بيزغرطوا، وأنا بعيّط من الفرحة”.

“وبعدهم، بدأوا أحفادي يملوا البيت.. دلوقتي عندي 17 حفيد، شفت أول خطواتهم، وكتبت معاهم أول الحروف. لما كانوا بييجوا يقولولي: ستي، نزللنا السبت، وأنا أهو.. لسه بنزله، كل يوم، من الشباك.. البقال بيحطلي الخضار، والعيال بيحطوا فيه طلباتي، وأنا ولا نزلت ولا تعبت”.

تأخذ نفسًا، وتدخل إلى الداخل وهي تجر طرف طرحتها وتتابع: “الشقة دي 63 متر، بس وسعت لكل حاجة.. وسعت فرحة، وسعت حزن، وسعت عزا جوزي، وعيد ميلاد أول حفيد. فيها أوضتين بس. واحدة كنت نايمة فيها جنب جوزي سنين، بس من بعد ما مات، قلبي ما قدرش ينام فيها تاني، إديتها لبنتي بعد طلاقها، ومعاها ابنها. بقوا هما أهل الأوضة”. تشير بيدها ناحية الغرفة: “فيها سرير حديد، ودولاب مفتوح على هدومهم وهدومي، وبلكونة اتقفلت علشان تسعنا… دلوقتي فيها التلاجة، ورجلي ما دخلتش البلكونة دي من سنين”.

 ثم تمشي نحو الصالة وتجلس على الكنبة، وتربت على الوسادة المطرزة: “دي مكاني.. دي راحتي. الكنبة دي بتتفرد لي سرير بالليل، وبحط راسي هنا، وبسمع الراديو. نفس الراديو القديم.. لسه بيشتغل، بس صوته واطي”.

تنظر إلى الجدار المقابل، حيث تتوسط الحائط صورة كبيرة  لأولادها وأحفادها في إحدى لمّات العيد. تبتسم، وبنبرة يغمرها الحنين: “الصورة دي بتحب النور.. كل ما الشمس تدخل من الشباك، تروح ضاربة فيها. كل مرة أبص عليها، أحس إني شايفة عمري ماشي قدامي، من أول ما كانوا صغار بيجروا في الصالة، لحد ما بقوا رجالة وستات، وكل واحد شايل عياله. 

ترفع الحاجة فتحية يدها إلى صدرها، تلمس الموضع الذي زرع فيه جهاز تنظيم القلب، وتتنهد: “العيال لمّوا تمنه من بعض… قسّموه زي أيام ما كنت بقسّم لهم طبق العدس. وركّبته. دلوقتي قلبي ما بيشتغلش لوحده.. شغال بسبع قلوب، قلوب ولادي، بس الجهاز ده ما بيعرفش يشتغل لو مكاني اتغير. أنا قلبي متعلق بالكنبة دي، بالشباك ده، وبالناس اللي صوتهم مالي الحيطان”.

“أنا ما بفهمش في القانون.. بس فهمت إنهم عاوزيني أخرج. طب أروح فين؟ أنا عندي جهاز في قلبي… وقلبي في البيت ده. الدكتور قال لازم أرتاح… أرتاح في مكاني، مش في أوضة غريبة وسقف غريب وجيران ما عرفهمش”. تشير بيديها إلى زوايا الشقة، كأنها تقدّم سيرة ذاتية على هيئة بيت: “هنا الحيطان اللي حضنت صوتي وأنا بزغرط. هنا الترابيزة اللي اشتريناها بالقسط، كل سنة من عمري مربوطة بحاجة فيها.

الصورة دي، كانت جديدة، دلوقتي بقت ذكريات.

السبحة المعلقة دي، كل ما قلبي يضطرب، أعد خرزها.

والساعة اللي فوق، وقفت يوم مات أبو العيال، وسبتها زي ما هي.. شاهدة على اللي راح”.

معاش لا يحتمل الطرد

زوجها كان لاعب كرة ينتمي لنقابة المهن الرياضية. عاش عمره وسط الملاعب، حتى آخر لحظة في حياته. أصابته ضربة أنهت مسيرته مبكرًا، لكنه لم يتوقف يومًا، ظل يعمل ويجتهد حتى توقف قلبه، لا قدماه.

تقول فتحية وهي تُخرج دفترًا صغيرًا من درج الطاولة: “الدفتر ده شاهد على كل حاجة.. بكتب فيه اللي داخل واللي خارج. دوا الضغط بـ220، ودوا القلب بـ420، والسكر بـ338.. وكل يوم حاجة بتزيد، وكل يوم بحاول أوفّر، وبقول الحمد لله”.

تتوقف، تمسح نظارتها بطرف طرحتها، وتتابع: “بآخد معاش جوزي.. 3500، وبقسمه مع بنتي اللي عايشة معايا. هي كمان بتصرف على ابنها، وأنا بدفع دوا، والتأمين ما بيغطيش كل حاجة. يعني نسترها بالعافية. حتى الإيجار، بندفع 100 جنيه في السنة، بس والله ما اتأخرنا يوم، ولا قصرنا”.

تنظر إلى الشباك حيث يتدلى “السبت” الخشبي المربوط بحبل: “السبت ده بيريّحني.. ما بنزلش، البقال يحط الحاجة، وأنا أسحبها. ولو نقصت حاجة، أنادي المحل اللي تحت، والعيال يجروا لي. الناس هنا عشرة عمر.. وولادهم كبروا قصاد عيني”.

تخفض صوتها، كأنها تخشى أن يسمعها البيت: “كان عندي أمل يستثنونا.. إحنا كبار، والإيجار باسم جوزي، وأنا كنت معاه من أول يوم دخلنا الشقة. أعيش فين تاني؟

ما عنديش مانع يعلّوا الإيجار.. بس يسيبونا.

بقيت أقول يا رب ييجي يومي قبل السبع سنين.. عشان ما أخرجش من بيتي”.

تشير إلى الجدران، كأنها تلمس قلبها، وتهمس: “كل حاجة هنا بتعرفني.. الصور، الصوت، والهوا اللي داخل من الشباك. العمر ده اتنسج بين الحيطان دي، واللي اتنسج بالعِشرة.. ما يتفكش بقرار”.

ذكريات لا تستبدلها الرفاهية

حاول ابنها الأكبر، حسين – اسم مستعار – إقناعها مرارًا بالانتقال إلى شقته الأوسع  في الجيزة.

قال لها ذات صباح، وهو يضع يده فوق كتفها: “يا ماما، الشقة صغيرة … تعالي شقتي، فيها أوضة مخصوص ليكي، وحمام قريب، ومفيش سلالم”.

لكن فتحية لم تفكر، لم تتردد، ردت فورا، بعين دامعة وصوت متمسك بالحياة كما عرفتها: “قلت له: لا يا حسين، أنا بموت هنا. الكنبة دي ريحت ضهري، والشباك ده بيدخللي الهوا، والسلم ده حافظاه درجة درجة… مش محتاجة أتمسك فيه، هو اللي حافظني”.

 لم تكن تبكي من الخوف، ولا من ضيق الحال، بل لأنها شعرت أن كل ما هو خارج هذه الشقة لا يشبه الحياة.

“أنا مش ضد الجديد… بس إيه الجديد اللي هيعرفني؟ اللي هيسأل عليا؟ اللي هيعرف صوتي من أول ما أفتح الشباك؟

الحيطان هنا اتعودت عليا، والضوء عارف وقت ما بدخل، والريحة دي فيها عمري”.أنا هنا مش ساكنة… أنا متجذرة، زي نخلة عاشت عمرها في الأرض.في تلك اللحظة، لم يكمل حسين حديثه، ولم يعد يفتح الموضوع من جديد. فهم ما لم تقله أمه، بل ما نطقت به عيناها ويديها التي تربت على الكنبة كأنها تود لو تضمها إلى صدرها.

أدرك أن أمه ليست فقط تعيش في الشقة، بل الشقة تعيش فيها.

في انتظار يومي الأخير.. لا يوم الإخلاء

تقول فتحية بصوت يحمل انكسارًا أكثر من الغضب: “هو القانون دا شايفنا؟ يعني إحنا كبار في السن، وعشنا عمرنا كله في البيوت دي، ومع ذلك عاملين معانا كأننا عبء لازم يتشال. سبع سنين؟ سبع سنين نبقى قاعدين على أعصابنا؟ كل سنة نحس إن الأرض بتتسحب من تحت رجلينا شوية؟” تصمت قليلًا، ثم تتابع وكأنها تخاطب المشرّع نفسه: “طب لما أنا ما ليش مكان تاني، ومليش مصدر تاني، ولما الإيجار اللي بدفعه رمزي لكن مش ببلاش، ولما أنا مش ببوّظ في الشقة ولا مأجراها ولا مستغلة، ليه تهددوني بالإخلاء؟ هو القانون دا معمول ليرمينا في الشارع؟ هو شايف إن الشقة دي رفاهية؟ دا البيت بقى هو اللي بيحضني، مش أنا اللي ساكنة فيه”.

تتنهد، وتضيف ببطء: “أنا مش ضد التعديل… بس التعديل اللي يراعي الظرف، والسن، واللي يعتبر إن في ستات زيي معاشها على قدها، وجسمها مش بيستحمل التنقل، ومفيش عندها فرصة تبدأ حياة جديدة.

مافيش مشكلة يزودوا الإيجار… ياخدوا الزيادة اللي يقدروا عليها من المعاش، بس يسيبونا لحد ما نموت. ما يرفعوش السقف فوق راسنا ويقولوا: عندكم سبع سنين وتخرجوا.”

تنظر في الفراغ قليلًا، ثم تقول بهمس: “أنا مش خايفة من بكرة، بس خايفة من الإهانة… من اليوم اللي أقف فيه عشان أدافع عن حقي في سرير ارتحت عليه، وفي سقف ما غرقنيش، وفي باب اتقفل عليا وقت حزني، واتفَتح في وش أولادي وقت فرحهم”. 

ثم تهز رأسها بأسى: “هو القانون ناسي إننا بشر؟ ناسي إن الحيطان دي بتشيل أرواح مش بس أثاث؟ ولا خلاص… الكبار مابقاش ليهم مطرح في القوانين؟”.

تعود فتحية إلى الكنبة، تجلس ببطء، تضع يدها على صدرها فوق موضع الجهاز، وتغمض عينيها لوهلة، كما لو كانت تفتّش عن راحة لا تأتي. 

“أنا معرفش هعيش لامتى.. بس اللي جاي كله هعيشه في قلق. بقيت أتمنى دقات قلبي -اللي بينظمها الجهاز- تقف قبل ما يجي يوم يقولولي فيه:امشي”. 

“يعني وصلت في عمري إني أتمنى قلبي يسبق الحكم… بدل ما أتحاكم في شيخوختي، بدل ما أتشال من مطرح كان حضني قبل ما يبقى جدران”.

تنظر إلى الشباك المفتوح، حيث يمتزج الهواء بصوت الباعة الجائلين وضجيج الحياة في شارعها القديم، ثم تقول بصوتٍ خافتٍ لا يسمعه أحد سواها: “أنا مش عايزة أعيش سبع سنين في عدّ تنازلي.. مش عايزة أعد الأيام مش بالعمر، لا… بخطوات الطرد”. ثم تتمتم: “خلاص… بقيت بعيّش كل يوم كأنه الأخير.. وبستناه ييجي، يمكن يكون أهون من السنين دي”.

التعليقات

من فضلك ادخل تعليقك
من فضلك ادخل اسمك هنا

موضوعات ذات صلة